*حسونة المصباحي
في شتاء عام 1991، بعد أيّام قليلة من اندلاع حرب الخليج الثانية ، والتي كان الهدف منها تحرير الكويت المحتلّة من الجيش العراقي، طلبت منّي جريدة ألمانيّة السّفر إلى باريس للتّحاور مع المثقّفين والمبدعين العرب المقيمين هناك حول أبعاد تلك الحرب ومضاعفاتها وانعكاساتها على الوضع السياسي العالمي، وعلى العلاقات بين الغرب والعالم العربي والإسلامي.
وأذكر أنني التقيت الكثير من الشعراء والكتّاب والفنّانين والصّحافيين المنتسبين إلى بلدان عربيّة مختلفة، وجميعهم كانوا يعيشون حالة مرعبة من التّوتّر والانفعال والخوف بسبب تلك الحرب، وكانت نظرتهم إلى المستقبل سوداويّة إلى حدّ كبير.
وبعد أن تحاورت مع أدونيس، طلبت منه أن يساعدني على تنظيم لقاء مع المفكر المرموق محمد أركون، فلبّى طلبي بأقصى سرعة. وقد جرى اللقاء في مطعم لبناني في الدائرة الخامسة عشرة بباريس.. كان الليل موحشا وممطرا، وقد بدا محمد أركون متعبا، ومثقلا بالهواجس والهموم، ربّما بسب الحرب التي كانت على أشدها.. في بداية الحوار قال لي الراحل محمد أركون إن السؤال ألأساسي بخصوص المجتمعات العربيّة يتمحور حول الوضع الثقافي والفكري الذي فيه تتحرك هذه المجتمعات منذ نهاية الحرب العالميّة الثانية. كما يتحتّم التّركيز على الوضع الثقافي والفكري للبلدان الغربيّة ذاتها خلال الخمسين سنة الماضية إذ تمكّنت هذه البلدان من خلال هيمنتها الاقتصاديّة والسياسيّة، والفكريّة أيضا من أن تتحكّم في مجمل الأحداث التي عاشها ويعيشها العالم، والعالم العربي بالخصوص. ويعتقد أركون أنه لا الفكر الغربي بجميع تجلّياته وإنجازاته الفكريّة والفلسفيّة والثقافيّة، ولا ما يسمّى بـ”الفكر العربي” لدى البعض، استطاعا أن يجيبا بصفة واضحة وجليّة على الأسئلة الحارقة التي تشغل المجتمعات العربّية منذ نهاية الحرب الكونيّة الثانية. والسبب الأساسي في ذلك يعود إلى أن مطالب هذه المجتمعات كانت تتعلّق بالتحرّر السياسي بالمفهوم الدقيق للكلمة والذي يعني عند أركون الدخول في التاريخ الذي يصفه علماء الغرب ومفكروه وفلاسفته بـ”التاريخ الحديث”. وموضّحا معنى ما قاله استشهد محمد أركون بحدث رمزيّ بالنسبة إلى الجزائرييّن لكي يثبت إلى أيّ مدى كان الفكر الغربيّ غير مستعدّ لتلبية مطالب الشعوب في التحرّر والدخول في التّاريخ الحديث.
ففي 8 مايو-أيّار 1945، وهو نفس اليوم الذي انتصر فيه الحلفاء على النّازيين، واجه الجيش الفرنسيّ المتظاهرين الذين نزلوا إلى الشوارع بجموع غفيرة للمطالبة باستقلال بلادهم بالرّصاص. وفي ساعات قليلة قتل وجرح منهم عدد كبير. حدث ذلك رغم أن الجزائرييّن كانوا من بين شاركوا كجنود ضمن الجيش الفرنسي في الحرب ضدّ النازيّة وضدّ الفاشيّة. وقد أبرز الحدث المذكور أنّ فرنسا التي عانت من الاحتلال ترفض حقّ شعب آخر في تقرير مصيره. وأضاف محمد أركون قائلا إنّ أحداثا أخرى أثبتت أن الغرب الذي يفاخر بدفاعه عن حقوق الإنسان ليس مستعدّا لتطبيق هذا المبدأ إذا كان الأمر متعلّقا بشعوب أخرى تختلف معه في الثقافة والتّاريخ والدّين. وهذا ما يفسّر الهوّة العميقة التي تفصل بين البلدان العربيّة والبلدان الغربيّة. وهذا ما يفسّر أيضا بقاء العرب خارج التّاريخ الحديث إلى حدّ هذا الوقت. لذا يطالب أركون بنقد الفكر الغربي نقدا راديكاليّا بهدف إظهار مثل هذه العيوب وهذه النّواقص. كما يطالب المثقّفين العرب بأن تكون لهم الشجاعة الكافية لكي يكسروا حاجز الصّمت الذي لازمهم حتى أمام الأحداث والفواجع الأليمة منذ نهاية الحرب الكونيّة الثانية، وأن يتخلّصوا من الخمول والجمود، وكلّ تلك العقد التي عقلت ألسنتهم وجعلتهم يهيمون حيارى خارج التاريخ الحقيقي للبلدان التي ينتمون إليها.
وأشار أركون إلى أن استقالة المثقفين خلال الفترات التي أعقبت الاستقلال كانت قاتلة. وبسبب ذلك دفع الجميع- النّخب كما الشعوب- الثّمن غاليا. ومن المؤكّد حسب رأيه أن مجمل ما يعيشه العرب من أوضاع أليمة وكوارث على جميع المستويات متأتّ بنسبة عالية من هذه الاستقالة. ومعلوم أن الشعوب العربيّة تتطلّع إلى الديمقراطيّة ، غير أن النخب السياسيّة والفكريّة تبدو وكأنها تتجاهل هذا الموضوع ولا توليه الأهمّيّة التي يستحقّها. بالإضافة إلى كلّ هذا فإن الأنظمة الحاكمة تعامل شعوبها باحتقار وقسوة خصوصا عندما تحاول هذه الشعوب التمرّد عليها. كما أن هذه الأنظمة تعامل بنفس الاحتقار النّخب المثقّفة ولا تعيرها اهتماما يذكر. والنتيجة أن النّخب المذكورة أصبحت تعيش مهمّشة ومنفصلة عن مراكز القرار، وعاجزة عن القيام بدورها في بناء المجتمع الجديد.
وأضاف أركون قائلا: “عليّ أن أصارحك وأصارح أدونيس الجالس معنا الآن بأنني لم أقرأ إلى حدّ هذه السّاعة أيّ تحليل لمثقّف عربيّ يرصُد فيه أفاق المرحلة أو المراحل القادمة، وأيضا التحوّلات والمتغيّرات التي يمكن أن يشهدها العالم العربي مستقبلا.. فنحن إمّا مشدودون إلى ماض اندحر وتلاشى، أو مهرولون وراء وقائع وأحداث لم نعد نمتلك القدرة على التّحكّم فيها.. ويعلم صديقي أدونيس جيّدا أنني لم أكفّ طوال مسيرتي الفكريّة عن مطالبة المثقفين العرب بالابتعاد عن الخطب الفضفاضة، وعن الشعارات البرّاقة التي تحجب القضايا الأساسيّة. وأنا أسأل: كيف يستطيع مجتمع ما، متقدّما كان أم متخلّفا، أن يحافظ على توازنه إذا ما عزلت قواه الحيّة وجمّدت نخبه المستنيرة؟!”.
وأشار أركون إلى أنّ التحرّر الحقيقي لا يمكن أن يأتي من الخارج، بل من الداخل. وإذا ما أراد العرب أن يجنّبوا أنفسهم المزيد من الفواجع فإنه يتعيّن عليهم الاهتمام بما هو واقعي، وليس بما هو مجرّد أوهام وأحلام مستحيلة التحقيق.
وختم أركون حيثه معي قائلا: “لقد أمضيت عقودا طويلة في البحث والتّنقيب وفي دراسة التّراث الديني والفلسفي والفقهي والأدبي، والآن أجد نفسي أحيانا أمام رهط من البشر يحولون دوني ودون التعبير عن آرائي بخصوص قضيّة فكريّة أو مسألة دينيّة أو غيرها. والبعض من المتطرّفين الأصولييّن يعتقدون أن الإسلام هو بحاجة في زمننا الرّاهن إلى الفوضى والإرهاب والفتاوى التي تدعو إلى الفتنة والقتل والتكفير، والحال أن الإسلام إذا ما ابتغى أهله أن يكون منسجما مع العصر ومتغيّراته هو بالأحرى في حاجة أكثر من أيّ وقت مضى إلى عقول رصينة وإلى مفكرين يمتلكون القدرة على الفهم، وعلى الغوص في الواقع، وعلىالتسامح والنقد الجذري، وإلى عقلانيّة رصينة تماما مثلما كان الحال في العصور الذهبيّة.
تُرى ماذا يمكن أن يكون موقف محمد أركون من انتفاضات ما سمّي بـ”الربيع العربي” لو كان لا يزال على قيد الحياة؟ استنادا إلى ما قاله لي قيل 22 عاما في المطعم اللبناني بالدائرة الخامسة عشرة بباريس، باستطاعتي أن أقول إنه- أي أركون- ما كان ليبدي تحمّسا لهذه الانتفاضات لأنها اندلعت في زمن كانت فيه النخب المستنيرة غائبة أو مُغيّبة، وكانت المجتمعات التي طحنها الاستبداد والفساد قد أصبحت رهينة التنظيمات الأصولية التي تبشر بالجنة، وتطلق فتاوى التكفير والجهاد وهدر دماء المخالفين لها في الرّأي من المثقفين والمفكريّن . وكان أركون، الذي تمّ تكفيره أكثر من مرّة، يعلم أن التنظيمات الأصوليّة هي القوى الوحيدة التي ستستفيد من هذه الانتفاضات، وتصادرها لصالحها لكي تفرض من جديد أشكالا أخرى من الاستبداد السياسي، بإسم الدين هذه المرّة، وبذلك تظلّ الشعوب العربيّة خارج التاريخ دائما وأبدا.
________
*( العرب)