إيرانيتان في رحلة تدمير ذاتي


*محمد موسى



على صعيد مشهد المهرجانات السينمائية العالمية لهذا العام، عادت الأفلام الإيرانية لتخطف الجوائز وتشد الإنتباه بموضوعاتها الإجتماعية الملحة التي قُدّمت ضمن معالجات جريئة إسلوبياً، وإداءات تخطف الأنفاس، لتشكل امتداداً للاتجاه الواقعي الناقد المعروف الذي طبع كثيراً من أفلام السينما الإيرانية الحديثة. ففي هذا العام، الذي وجدت الجوائز العالمية الكبيرة طريقها مجدداً الى المخرج الشهير جعفر بناهي، عندما فاز فيلمه «تاكسي طهران» بالدب الذهبي في برلين، حصل المخرج حامد رجبي عن فيلمه «القفز من علوٍ منخفض»، والذي عرض ضمن مسابقة بانوراما في المهرجان الألماني العريق ذاته، على جائزة النقاد الدوليين.


 بعد ذلك بأشهر معدودة، ظفرت المخرجة آيدا بناهنده بجائزة أفضل فيلم واعد في تظاهرة «نظرة ما» في مهرجان كان السينمائي عن فيلمها «ناهيد». وهناك فيلم إيراني مهم آخر عرض أخيراً في مهرجان فينيسا الدولي.

أجيال
اللافت أن بناهي الذي يتصدر هذا العام مُنجزات السينما الإيرانية، يقف جنباً الى جنب مع مخرجين شباب، بدت أفلامهم القوية هذه مُدينة لأفلام هذا المخرج الإيراني بالتحديد، وبالخصوص تلك التي سبقت العقوبات الحكومية عليه. ففيلما «ناهيد» و»القفز من علوٍ منخفض»، يمكن أن يكونا امتداداً ما – أقل جودة وحدّة بالطبع – لتحفة بناهي «الدائرة» (2000)، والتي ما زالت نضرة وهائلة القسوة، في كشفها محن النساء الإيرانيات، وهن يواجهن منظومة القوانين والأعراف الذكورية الظالمة.


يتذكر من شاهد «دائرة» بناهي، الحلقة المسدودة المُرعبة التي كانت شخصياته النسائية محصورات بها، وكيف كان السيناريو ينتقل من شخصية الى أخرى، لتبدو كل امرأة في الفيلم وهي تستعد لمغادرة مسرح الأحداث، كمن يقذف بشعلة نار ترمز للوجود نفسه الى زميلتها الأخرى التي تأخذ الفيلم الى قصة أخرى مختلفة.
يفتتح فيلم «القفز من علوٍ منخفض» زمنه بمشهد في عيادة نسائية، حيث ستتلقى بطلة الفيلم الشابة (نهال)، خبر موت جنينها، وأن عليها أن تعود بعد يومين من أجل عملية إخراجه من رحمها. لن تذرف البطلة دموعاً، لكن ما حدث في تلك العيادة كان بداية لتقوض عالمها.
وهو العالم الذي كانت مطمئنة لثبات أركانه، بزوج محب وأسرة حنون من الطبقة المتوسطة. البطلة التي تعجز أن تخبر زوجها او عائلتها عن موت الجنين، تنطلق في المقابل في رحلة تدمير ذاتي عنيفة، كانت في بعض مواقعها صعبة كثيراً على المشاهدة. يتبدى لاحقاً أن «نهال» تعاني الكآبة منذ فترة، وأن موت الجنين هو المسمار الأخير في نعش حياتها. لا تفقد البطلة عقلها بالكامل، لكن كمن يتخلى فجأة عن كل الكياسة والقيود الاجتماعية، أضحت قادرة على فعل ما عجزت هي وأمثالها من النساء عن فعله. كما تسائل البطلة ثوابت الآخرين عن الحياة والوجود، كالمشهد المؤثر عندما تسأل طبيبتها النفسية ما اذا كانت هي نفسها سعيدة او راضية عن حياتها.
يطلق الفيلم العالم الداخلي المكبوت لشخصيته الرئيسية، فترى ما كانت عاجزة عن رؤيته، وتقول الذي لم تستطع قوله في الماضي. فكك موت المستقبل (الجنين) في أحشائها قيودها المعاصرة. مسار البطلة المفاجئ هو أيضاً رحلة تطهير من ذنوب المجتمع وآثامه من حولها. هي قديسة عصرية عليها أن تبلغ أقصى حدود التضحيات حتى ينجو عالمها.


هذه الشخصية ستسعد كثيراً المخرج الدنماركي لارس فـــون تراير، والذي لا يخــلو فيــلم من أفلامه من امراة من هذا النوع. تؤدي الممثلة الإيرانية نكار جواهريان دوراً رائعاً، بأداء مســتقر يتوازن فيه الغضب والقنوط، ووجه تجمّد من الصدمة، بدا فاقداً الحياة في مشاهد معينة. تتنقل الشخصية من مشهد الى مشــهد، كامراة بشجاعة جديدة، لكنها في الوقت نفسه لا تتوقف عن تذكيرنا بأنها تحمل محنة فعلية ورمزية.
امرأة أخرى
حال البطلة الأخرى في فيلم «ناهيد»، لا يختلف كثيراً. هي أيضاً في أزمة، والفيلم يصل إليها وهي تحاول أن تفتح بلا جدوى باب بيتها الذي بدّل صاحب البناية قفله، لأنها لم تسدد المبالغ المتراكمة عليها. هي امراة مطلقة، وأُمّ لصبي لا يتعدى العاشرة، وحبيبة لصاحب الشركة التي تعمل فيها، لكنها غير قادرة على الزواج منه، لأن هذا يعني فقدها حضانة ولدها. تزداد قتامة القصة تدريجياً، فالبطلة ناهيد التي تقدم على الزواج الموقت بحبيبها، تفقد ابنها لزوجها المقامر والمدمن السابق على الهرويين. هذا من شأنه أن يدفع بها، وكحال بطلة الفيلم الآخر الى رحلة تدمير، ستكون أقل قسوة من رحلة الفيلم السابق.
تدور قصة فيلم «ناهيد» في مدينة إيرانية ساحلية، ستوفر مشهديات غير مألوفة على السينما الإيرانية. كما بدا المحيط الذي تتحرك فيه الشخصية أقل تشدداً مما نعرفه عن إيران الإسلامية.
لكن – وهذا أحد منجزات الفيلم – تواجه ناهيد (تلعبها بتمكن كبير الممثلة سارة بيات) وفي شكل تدريجي، الظروف نفسها التي يمكن أن تصطدم بها نساء إيرانيات أخريات. هن في النهاية دمى في مسرح تحركها أيادٍ قوية، حيث يُحسب كل حركة ونفس، ويبدو من الاستحالة فيه تحدي المحيط الكبير، اذ تعود حتى الشخصيات المتفتحة في الفيلم الى القوانين الحكومية التي تجور على المرأة. وناهيد عليها الاختيار بين سعادتها الخاصة وابنها. هذه المعضلة، والتي قدمت ضمن نسيج القصة الاجتماعية المحدودة الطموحات، ستحمل إشارات وترميز، تحوّل بالنهاية القصة الصغيرة الى خطاب نسوي ناقد وغير مساوم.
يتقاطع الفيلمان في بنيتهما ومُعالجتهما أزمات وهواجس بطلتيهما. فالعملان يختاران أن يضبطا إيقاعيهما على الحال النفسيّة للمرأتين. حتى يكاد نبض الفيلم ونفسه العام يكونان ما يشبه معادلاً صورياً لصوت تنفسهما وحركتهما. نادرة هي المشاهد التي لم تتصدرهما المرأتان. والتي ستجمع بين اتجاهين: الأول هو تقديم العالم كما تراه البطلتان، والآخر التكثيف الدرامي للرحلات القاسية للشخــصيتين، والتي تنــتهي، وعلى رغم الجو القاتم القانط للفيلمين بنهايات مفتوحة تحمل بعض الأمل. ذلك أن العملين وبعد أن قدما تلك الرحلات الصعبة التي بدت بلا رجاء أحياناً، يعودان الى البطليتن ليجعلاهما تواجهان مجدداً معــضلة توجـــيه دفة حياتهما. أي يُعيد الفيلمان في النهاية، القرار للبطلتين بعدما صادرته الظروف الخارجية، وعلى المرأتين أن تختارا من جديد الوجهة المقبلة. هي إذاً «دائرة» جعفر بناهي المُغلقة مرة أخرى.
_____
*المصدر: الحياة

شاهد أيضاً

العلاقة بين الشخصية الحقيقية والروائية في مسلسل التغريبة الفلسطينية

(ثقافات) “طربوش أبو عزمي العلي”:   العلاقة بين الشخصية الحقيقية والروائية في مسلسل التغريبة الفلسطينية زياد …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *