عايدة الجوهري
في حزيران الماضي، اعتقلت فتاتان مغربيتان في مدينة «إنزكان» المغربية قرب مدينة «أغادير»، وتمت محاكمتهما بتهمة الإخلال العلني بالحياء، لارتدائهما تنورة، أو «صاية»، كما يسميها المغاربة، في سوق عمومي، بعد أن تحرّش بهما بعض الرجال. وقد حاولت الفتاتان الفرار والاختباء في أحد المحال التجارية، فتجمهر حولهما المارة العابرون والتجار، ورشقوا المحل الذي كانتا في داخله بالحجارة، بحجة أنهما تلبسان «لباساً عارياً» وتمّ استدعاء الشرطة التي اعتقلتهما وتمت محاكمتهما. ولكن سرعان ما أطلق سراحهما تحت ضغوط المجتمع المدني الهائلة التي تمثلت بالتظاهرات النسوية، وجمع آلاف التواقيع، وتبرع 500 محام بالترافع لمصلحة الفتاتين، ومشاركة مئتين منهم في المرافعة لمصلحة الفتاتين أثناء جلسة المحاكمة، علاوة عن الاحتجاجات الصارخة على صفحات الفايسبوك، وأدت هذه الضغوط الى قلب الموقف رأساً على عقب، بحيث قضى الحكم القضائي بتبرئة الفتاتين، فيما تم توقيف شابين، أحدهما قاصر، بتهمة التحرش.
جديرة هذه الحادثة بفيلم درامي مثير يبرز خصوصاً دور الذهنية الذكورية في قمع حريات المرأة الفردية، ولكن أيضاً دور المجتمع المدني اليقظ في تغيير موازين القوى لمصلحته.
خيضت قضية الفتاتين باسم ما يسمى في «علم الحريات» بـ «الحريات الفردية»، وهي من طينة الحريات التي لا تحظى دوماً باهتمام التغييريين والغاضبين، في لبنان والعالم العربي، لا من باب مشكلة «التحرش»، لأن السلطة المغربية بادرت ببساطة الى اعتقال الفتاتين وباسم الدستور.
لأول وهلة، قد تعد هذه المعركة تافهة، فارغة، لزوم ما لا يلزم، قياساً بالمعارك التي تخاض من أجل الحريات السياسية والإعلامية، فما أهمية الحق في اختيار اللباس أمام سجين رأي يلاقي حتفه في زنزانة أو تحت التعذيب، أو امام صحافي يمنع من الكتابة، أي من العيش، لمدة عشر سنوات، كما هي حال الصحافي المغربي هو الآخر، علي المرابطة، أو امام متظاهرين يتم تفريقهم بقوة الرصاص… الخ؟
نعم هي وقائع مهوّلة، مفجعة، بيد أن التاريخ الاجتماعي يعلّمنا أن التسلّط السياسي والتسلط الاجتماعي توأمان سياميان، كما يعلمنا مثلاً أن البلاد التي تفرض بالقوة الحجاب على النساء، لم تكن يوماً ديموقراطية سياسياً.
الجسد موضوعاً للاستبداد
لا تنحصر السلطة في المجال السياسي بل تتخطّى الى الإعلامي والديني والتربوي والثقافي والطبي والشخصي، والى الخيارات الفردية الحميمة: الى الجسد كذات، الى الجسد ـ الذات، والسلطة الاستبدادية، ثيوقراطية أو زمنية، تنطوي على استراتيجية سياسية تمارس على الجسد كي يذعن ويخضع.
تقوم القوانين والأعراف على ضبط قواعد الجسد الذي لا يمكن أن يصبح شرعياً ومقبولاً إلا بعد خضوعه للقانون والسائد، وتمارس الهيمنة الاجتماعية على الجسد من كل المؤسسات من خلال مجموعة من العلاقات الثقافية الأساسية، تعززها منظومة المعتقدات والقيم السائدة، والقائمة على الممنوع والمنصبّة على مفهومي الحرام والعيب، والتي تقوم العلاقات العمودية بين الحكام والمحكومين، أو العلاقات الأفقية بين المحكومين أنفسهم على تثبيت ديمومتها، حيث تحريم الفعل وتحريم الكلام في الممنوع، جزء من العذرية العامة.
هي الرغبة في تطويع الجسد، لتطويع من يسكنه وتكريس دونيته، أجساد مقموعة، أفواه مكمومة، corps réprimes, bouches muselées يقول جان بول سارتر، فالجسد المغلول، يغني روحاً مغلولة، عقلاً مغلولاً.
مفهوم الحريات الفردية
تفترق الحريات الفردية عن الحريات العامة باعترافها بحق الإنسان في أن يطور نفسه وينظم حياته ويستمتع بها بطريقته الخاصة. هي قدرة الفرد على اتخاذ القرار المناسب دون أي تدخل أو أي تأثير من أي طرف خارجي.
تنطلق الحرية الفردية من مبدأ سلطان الفرد على بدنه وذهنه وعقله. أولى هذه الحريات هي حرية الاعتقاد في السياسة والدين والأخلاق، هي حرية تتيح إعمال العقل في النظر الى وقائع الحياة ومعانيها وظواهرها، وتدرج عادة الحريات المذكورة في باب «الحريات العامة»، ولكن «الحريات العامة» ليست سوى مجموع «الحريات الفردية» التي تبحث عن حل جماعي لها، تلي «الحرية الفكرية»، «حرية الإرادة» وهي «حرية إدارة الحياة الخاصة»، حرية اختيار مكان السكن، والمأكل والمشرب واللباس والتنقل، وهي حرية اختيار وسائل الترفيه والاستماع، سماع الموسيقى والغناء ومشاعدة الأفلام السينمائية والعروض المسرحية، وقراءة الكتب المشتهاة، وممارسة الرياضة وفنون الرقص، الى ما هنالك من وسائل ترفيه واستمتاع.
في المجتمعات المنغلقة لا يتمتع الإنسان بحقه البسيط في أكل وشرب ما يشاء ساعة يشاء (الصيام الإلزامي والحظر الدائم للكحول ولبعض أنواع اللحوم وغيرها)، ولا في ارتداء اللباس الذي يستهوي ذوقه، ولا في سماع الموسيقى والأغاني التي يشتهي، ولا في مشاهدة الأفلام السينمائية والعروض المسرحية التي يبتدعها العقل البشري وتستهويه، كما أنه لا يجرؤ على التفكير بحقه في الرقص، ما خلا اللهم الرقص الفولكلوري التقليدي الذي يعزل النساء، الى ما هنالك من محظورات تتحكم بكيفية إدارة الفرد المتفرد لرغباته وأهوائه الشخصية.
وتشتمل الحريات الفردية على موضوع جوهري وهو حرية تقرير الحياة العاطفية واختيار الشريك دون إيعاز خارجي، وحرية الزواج من عدمه، وحرية اختيار نظام الحياة الثنائية دون الخضوع لقوانين وأعراف تشوه العلاقة بين الجنسين بدعوى الحرام أو العيب. كل ما يستطيعه المجتمع هو الأمل في ان تؤدي العلاقات بين الجنسين الى مزيد من التوازن، والتفتح، والتبادل، والاعتراف، والتعاون، والسعادة، ووضع القوانين التي تحافظ على سوية الشراكة العاطفية الاجتماعية.
وبالمقابل/ لم يعد مقبولاً أخلاقياً إقامة حواجز مفتعلة بين الجنسين بدعوى الخوف من الفتنة، واهتزاز النظام الإلهي والاجتماعي، حارمة الفرد من التواصل مع جنسه الآخر، مع ذاته الاخرى. غير أنه لا مفر من التنويه أن نصيب النساء من انتهاكات الحريات الفردية في المجتمعات العريبة والإسلامية من نصيب الرجال، لوجود خلل في علاقات القوة الاقتصادية والسياسية والرمزية، وأعني بالرمزية، الأنظمة المعرفية السائدة، ولكن هذا الخلل لا يطمس تعرض الذكور أنفسهم لتواطؤ السلطات السياسية والدينية على التحكم بتفاصيل حياتهم الخاصة، ولو أنصت الرجال الى كل تعليمات الفقهاء لارتبكوا في كل خطوة يخطونها، أو قرار يتخذونه..
ورغم ذلك، لا تتهاون المجتمعات الذكورية بخروج المرأة عن طاعة أهواء الرجل، كانعكاس لطاعة منظومة قيم متكاملة، ويتآمر في هذا النطاق المجتمعان الرسمي والأهلي لتثبيت القوانين التمييزية، كقوانين الأحوال الشخصية المستوحاة من النصوص الدينية الأصلية والفقهية، وقوانين العقوبات التي تميز بين الجنسين، لدرجة تحويل الرجل حق قتل قريبته باسم الشرف، ولا يقف التضييق على المرأة عند حدود القوانين، بل يتولى المجتمع الأهلي المنغلق على ذاته، تطبيق ما فات القوانين الجائرة من ممنوعات تحاصر المرأة في دقائق حياتها اليومية وخياراتها العاطفية، وقد يكون هذا المجتمع اشد ضراوة من المجتمع الرسمي، مستنجداً بالقانون للتطهّر منها.
لبنان نموذجاً
حريّ بنا، الآن وهنا، التنويه ببعض الوقائع والظواهر التي تصنّف في خانة انتهاك «الحريات الفردية» متخذين من لبنان نموذجاً، على الرغم من تمتع هذا الأخير بهامش من الحريات الفردية تغبطه عليها الشعوب العربية الأخرى. تصب هذه الانتهاكات في استراتيجية الحفاظ على بنية النظام الطائفي الذكوري، المزدوج المرجعية، الجامع بين القوانين المدنية وغير المدنية، بين الشرق والغرب، بين الانفتاح البراني الظاهري، والانغلاق الفكري، سوف ننتقي بعض أبرز الانتهاكات.
ـ تنتهك حرية إعمال العقل في قراءة الوقائع والأحداث عندما تستولي القوى السياسية والرأسمالية على المنابر الإعلامية وتقوم بتضليل الرأي العام وكم أفواه الأصوات المغايرة في السياسة والدين والأخلاق.
ـ وتنتهك حرية إدارة الحياة العاطفية والأسرية بحرمان اللبنانيين من اختيار العقد المدني لبناء حياتهم الخاصة وإلزامهم بقوانين أحوال شخصية جائرة وغير متوازنة تحت مسمّى التعاليم الدينية والعادات والتقاليد، كما يعد تدخلاً سافراً في خيارات المرأة اللبنانية العاطفية حرمان أولاد المرأة المتزوجة من أجنبي حقهم في الجنسية.
ـ ويعد انتهاكاً للذوق الخاص والحاجات الخاصة، تحريم الغناء والموسيقى والرقص والخمر في بعض البيئات اللبنانية بحجة الانصياع للأوامر الدينية.
ـ وتنتهك الحريات الفردية في كل مرة تحذف اجهزة الرقابة اللبنانية، نصوصاً مسرحية أو مشاهد سينمائية، أو تمنع فيها نشر كتب محلية أو أجنبية لأعذار دينية أو طائفية سياسية، وبمصــادرتها النصــوص الإبداعية تمارس قوى الظلام وصايــة ســافرة على العقل والإبداع.
ـ وتمثل الاعتداءات المتفرقة على بعض الأفراد لإجبارهم على الصيام في شهر رمضان، انتهاكاً مضافاً للحريات.
هذه بعض الوقائع النافرة التي مثلت في ذهني، ولكنها ليست بالطبع الوحيدة. شئنا في هذه المقالة إلقاء ضوء كاشف على سلالة منسية من الحريات، وتفنيدها، وتفكيك مركباتها، دون ان ندعي التعمق في كل جوانبها، فقد نجد من يضيف إليها أصنافاً أخرى، كحرية اختيار المهنة ومكان العمل ولكننا رأينا أن هذين الموضوعين ينتميان الى رزمة أخرى من الحريات.
وفي الختام، نذكر أن الحريات الفردية هي سليلة تلك المنظومة من الأفكار التنويرية التي اعتبرت الإنسان سيد نفسه وغاية بحد ذاته وليس وسيلة، وأنه صانع مصيره وليس ألعوبة القدر، وأن عقله وإرادته ومعرفته، بتحويله حق نفسه، وإن عقله يخوله إدارة حياته كيفما شاء، على ألا يسيء الى الآخرين وأن يعترف بحقوقهم المماثلة لحقوقه، على قاعدة التعامل بالمثل. وعملاً بمضامين هذه الحريات يعد كل تدخل في خيارات الفرد الشخصية انتقاصاً من كينونة هذا الفرد وكرامته وتمامه.
نعم قضية «التنورة» تستحق أن تكون قضية رأي عام، كسائر القضايا التي تنال من الحريات الفردية ومما يسمى «حريات عامة».
(]) واستطراداً نحن لا نضع حرية التصرف المطلقة بالملكية الفردية في نطاق الحريات الفردية اللازمة والملزمة لأنها تتعلق مباشرة بشؤون الآخرين، لأن الآخرين لا يمكلون حيالها حقوقاً مماثلة، فالرساميل ليست موزعة بالتساوي بين الناس، عدا عن كون ارتدادات هذه الحرية المطلقة تنزل وبالاً على سائر أفراد المجتمع.
السفير الثقافي