*محمود شقير
خاص ( ثقافات )
الأيام تمضي
1
اليوم هو الأحد.
عدت مساء أمس من لاس فيجاس.
نمت حتى العاشرة صباحاً. اغتسلت وتناولت طعام الفطور وبقيت في غرفتي. الطقس في أيوا بارد نسبياً، لكنه محتمل مع ملابس شتوية دافئة. سأذهب بعد قليل إلى قاعة الكمبيوتر، لقراءة الصحف العربية على الإنترنت. تصفحت عناوين بعض الصحف. لم يجتذبني شيء. غادرت القاعة بعد نصف ساعة.
ركبت الحافلة وذهبت إلى مجمّع تجاري كبير في بلدة كورال فيل، اسمه “كولاريدج مول”.
تجولت في المحالّ التجارية بضع ساعات، سلع كثيرة متباينة الأسعار تطل بأناقة من وراء الفترينات، وأنا حائر أحاول المواءمة بين رغباتي وقدرتي على الشراء. اشتريت هدايا للأهل وللأقارب وللأصدقاء، تناولت وجبة الغداء في مطعم للوجبات السريعة، ثم عدت إلى أيوا. شعرت بألم في قدمي اليسرى، ربما من كثرة المشي أثناء النهار في المجمّع التجاري. نقعتها في الماء الساخن على أمل أن يخفّ الألم، لكن من دون جدوى.
صباح اليوم التالي، أخذني بيتر نازاريث وزوجته ماري في سيارتهما إلى صيدلية في المدينة. اشتريت ربطة من قماش. كانت كانغ معنا، جلستُ على أحد مقاعد متجر “أولد كابيتال مول”، وقامت كانغ بلفّ قدمي بالقماش، شكرتها على موقفها الإنساني، وشعرت ببعض التحسن، لكنني ما زلت غير قادر على المشي بشكل طبيعي.
في اليوم التالي، استمر الألم ولم يتوقف. وضعت لي كانغ ربطة أخرى على قدمي. شعرت بشيء من الراحة. كم هي طيبة هذه المرأة الشابة، كم هي مستقيمة مخلصة! كم هي أليفة، اجتماعية، محبوبة من جميع الزملاء والزميلات! (لم يمنعني الألم من الانهماك في تنظيف المطبخ والحمام وغرفة النوم، تمهيداً لمغادرتها وهي نظيفة تماماً)
2
آخر كتاب قرأته في السكن الجامعي هو لاتيرنا ماجيكا “الفانوس السحري” لإنغمار بيرغمان. هي سيرة ذاتية كتبها المخرج السينمائي مدوناً تفاصيل حميمة، صريحة، وجريئة من حياته. (لفتّ انتباه كانغ إلى أهمية الكتاب فقرأته وأعجبت به) قرأت له من قبل روايتين ولم أتحمس لهما. آخر أنشطتي العامة، ندوة في أيوا حول الوضع السياسي الراهن في فلسطين ومستقبل عملية السلام، أمام حشد من الرجال والنساء المنضوين في عضوية أحد النوادي. قبل الندوة تناولنا طعام الغداء في مقر النادي، لم تكن لي رغبة في الطعام، بسبب القلق الذي يعتريني عادة قبل مواجهة الجمهور. وندوة أخرى في كلية هاملتون في مدينة سيدار رابيدس، أمام حشد من طلاب وطالبات الكلية، وبحضور بعض الطالبات والطلاب العرب والفلسطينيين الدارسين في الجامعة، الذين جاءوا خصيصاً تعبيراً عن اهتمامهم بي.
جاءت امرأة ومعها طفلها، أخذتني في سيارتها إلى مبنى الكلية. كادت المرأة أن تتورط في حادث سير خطير مفاجئ، تفادته في اللحظة الأخيرة بكل ما لديها من براعة وانتباه. دهشت حينما لاحظت أن بعض الطلبة الأمريكيين لا يعرفون شيئاً عن فلسطين! بدا ذلك واضحاً حينما أنهيت مداخلتي ورحت أتلقى أسئلة الطالبات والطلاب. شرحت لهم بعض الحقائق التاريخية التي يعرفها الداني والقاصي، كما لو أنني في حصة مدرسية.
بعد انتهاء الندوة، عدت إلى أيوا في سيارة مدرّس في الكلية، وهو يهودي مهاجر إلى أمريكا من بولندا. لاحظت أثناء الحوار الذي أعقب الندوة، أنه كان معنياً بتلطيف صورة إسرائيل، غير أنه في الوقت نفسه كان معنياً بإحلال السلام في منطقة الشرق الأوسط. أكد على موقفه العقلاني هذا وهو يقود سيارته في الليل عائداً بي إلى السكن الجامعي. في وقت سابق شاركت في ندوة حول صور أمريكا، انعقدت الندوة في أيوا. قلت: حينما جئت إلى ماي فلور ورأيت أسراب الفتيات الجميلات عند مدخل المبنى وفي ردهاته، وحينما شاهدت جمال الطبيعة هنا، ولمست المستوى الحضاري المتقدم للناس، والتهذيب الذي تنطوي عليه نفوسهم، فإنني تعجبت كيف يحجب مسؤولو الإدارة الأمريكية هذا الجمال كله عن أعين الشعوب الأخرى، وبالذات شعوب العالم الثالث، ويقومون في الوقت نفسه بإرسال الجيوش وأسلحة الدمار التى تلحق الأذى بهذه الشعوب، مقدمين بذلك أسوأ صورة لأمريكا! قلت إن صورة أمريكا في بلداننا العربية ليست جميلة، لأن المسؤولين هنا يرسلون إلينا دبابات وطائرات تحيل حياتنا إلى جحيم وخراب. بدا موقفي مفاجئاً لبعض المستمعين فيما استراح لهذا الموقف عدد آخر منهم.
3
ذهبت أنا وكانغ إلى مكتبة الجامعة لمشاهدة بعض أفلام الفيديو.
شاهدت فيلم “ديكاميرون” لباولو بازوليني. الفيلم يعرض حكايات من القرن الرابع عشر تتعلق بخيانات الأزواج والزوجات، ولا يخلو من طرافة وتسلية، خصوصاً مشهد الراهبات مع الشاب الذي تظاهر بأنه أخرس، فلم يترددن عن التجرؤ عليه، إلى أن اكتشفن أنه شخص ناطق خبيث. شاهدت جزءاً من فيلم “التانغو الأخير في باريس” (لم أتمكن من مشاهدة الفيلم كله لأن الساعة قاربت الخامسة، وهو الوقت الذي تغلق فيه دائرة الفيديو هذا اليوم) كنت شاهدت هذا الفيلم في القدس الغربية العام 1971 صحبة عدد من الأصدقاء. أحببت أن أشاهده هنا لأتذكر من جديد ذلك المساء البعيد، حينما ذهبنا إلى سينما زيون في القدس الغربية لمشاهدة الفيلم. لم يشدني الفيلم كثيراً هذه المرة، بسبب رغبة المخرج في عرض جسد ماريا شنايدر من دون مبرر فني كما يبدو، كما أن شخصية بطل الفيلم التي يؤديها مارلون براندو فيها شيء من المبالغة وعدم الإقناع. (شاهدت الفيلم مرة ثالثة فيما بعد، ووجدت أن رأيي آنف الذكر ليس دقيقاً. غير أنني انتبهت إلى المفارقة التالية: حينما شاهدت الفيلم وأنا في الثلاثين من العمر، رسخت ماريا شنايدر في ذهني باعتبارها امرأة ناضجة، وحينما شاهدت الفيلم وأنا في السابعة والخمسين من العمر، بدت لي ماريا شنايدر بنتاً صغيرة مراهقة)
غادرنا المكتبة، ذهبنا إلى مطعم فيتوس الذي يقع في مركز المدينة، المطعم يملكه عرب جزائريون، يقدمون وجبات طيبة من الطعام. تناولنا طعام العشاء وتحدثنا في شؤون عديدة. قالت كانغ: أصبحت أعرف أشياء عن فلسطين، لم أكن أعرفها من قبل. أشعرني كلامها بطمأنينة ما، وكنت أكنّ لها وداً خالصاً. في طريقنا إلى السكن الجامعي، دخلنا مكتبة للبحث عن كتاب يتحدث عن عقائد الهنود الحمر، طلبته الزميلة الكاتبة ليانة بدر، كنت بحثت عنه في مكتبات أخرى من دون أن أعثر عليه. لم أعثر عليه في هذه المكتبة أيضاً. اتجهنا إلى موقف الحافلات. الأضواء الملتمعة في انتظار عيد الميلاد، المثبتة على جذوع الأشجار وأغصانها، تضفي على المدينة رونقاً وغموضاً. كان الطقس بارداً. ثمة ضباب يتكاثف فوق البيوت والأشجار وحول مصابيح الشوارع. أيوا تبعث على التأمل في أول هذا الليل.
4
اليوم هو الأحد (22/11/1998)
ها هي ذي الرحلة قد وصلت إلى نهايتها، كما يحدث دائماً.
هاتفت عدداً من الأقارب والأصدقاء هنا في الولايات المتحدة، هاتفتهم لكي أودعهم. كان الوداع مشحوناً بمشاعر دافئة، كما يحدث عادة في مثل هذه اللحظات.
جاءت كانغ واشتركت معي في لملمة كتبي وأشيائي. كانت صامتة هادئة، تنطوي على قدر كبير من رجاحة العقل، التي تليق بامرأة ما زالت في الثامنة والعشرين من عمرها. غادرتُ السكن الجامعي في مدينة أيوا الساعة الثانية عشرة ظهراً. (الغالبية العظمى من الكاتبات والكتاب غادروا قبل ذلك) كنت حزيناً بعض الشيء، لأنني أغادر أشخاصاً لهم خصال أليفة محببة، وأماكن ظلت تتسرب إلى داخلي حتى أصبحت جزءاً مني. كان البروفيسور بيتر نازاريث وزوجته ماري في وداعي، وكذلك كانغ وبرناردو. ساعدوني مشكورين على حمل حقائبي الثقيلة، ونقلها من الغرفة إلى السيارة التي تنتظر عند مدخل السكن. آه! كم أتضايق من حقائب السفر!
الطقس في أيوا هذا اليوم أمْيَل إلى البرودة، غير أن الشمس تسطع في السماء. هبطتُ درجات السكن الجامعي لآخر مرة وأنا أرتدي معطفي الصوفي، وأمشي بقليل من المشقة بسبب الألم الذي لم يغادر قدمي. كانت لحظة الوداع مؤلمة. تجيش نفسي بمشاعر متضاربة. يحدث معي الشيء نفسه كلما غادرت بلداً وأصدقاء. أحزن لمجرد تذكري أناساً فارقتهم، وأفرح لمجرد تذكري أناساً آخرين لن ألبث أن ألقاهم. إنه سحر الحياة التي نحياها في ألم حيناً وفي مسرة حيناً آخر.
وصلت إلى مطار سيدار رابيدس، جلست أنتظر الطائرة التي ستأخذني إلى مطار سانت لويس ثم إلى مطار نيويورك ثم إلى مطار اللد.
ها أنذا أجلس في صالة المطار، مسترخياً بعد إيداع حقيبتين كبيرتين داخل الطائرة. أجلس ومعي حقيبتان صغيرتان سأحملهما طوال الرحلة، أجلس وأنتظر. غداً، سأكون، من جديد، في الوطن. ثمة شوق يتنامى في داخلي للأهل وللأصدقاء، للأماكن التي غبت عنها زمناً.
وها أنذا أصعد إلى الطائرة ولسان حالي يقول: وداعاً يا أيوا، يا ماي فلور، يا غرفتي الهادئة في ماي فلور، وداعاً يا أصدقائي الذين تركتهم هنا. وداعاً أيتها الولايات المتحدة الأمريكية!
________
*روائي وقاص من فلسطين