الاستبداد والأدب: العلاقة السيئة في تشيلي!


*عبدالله الزماي


ظل الاستبداد والطغيان على مر العصور العدو الأول للفنانين والمبدعين في مختلف أنحاء العالم والمهدد الأول لحرية التعبير والكلمة والإبداع والحقوق الإنسانية التي طالما دافع عنها المبدعون، ودفعوا ثمن ذلك غاليا في أحيان كثيرة. 
تشيلي البلد النائي في أقصى غرب العالم والبلد الفقير الذي عانى طويلا ويلات الاستعمار الأوروبي واستغلال مقدراته وثرواته لم يكن بمعزل عن ما يحدث في العالم من حركات استقلال وتحرر بدأت تمتد في بلدان العالم في أوائل القرن التاسع عشر وكذلك أعقب ذلك في القرن العشرين نهضة على مختلف المستويات والأصعدة تخللها مخاض كبير كما هي عادة التحولات السياسة والاجتماعية والاقتصادية دائما.

الفنانون والأدباء لم يكونوا أيضا بمعزل عن هذا بل ساهموا بهذه النهضة مساهمة كبيرة وأبرز مثال على ذلك حصول الشاعرة التشيلية غابريلا ميسترال على جائزة نوبل للأدب عام 1945، وبعد ذلك حصل الشاعر التشيلي الشهير بابلو نيرودا على هذه الجائزة عام 1971 العام الذي تلا ما شهدته تشيلي انتخابات ديموقراطية حرة انسحب فيها مرشح الوحدة الشعبية آنذاك “بابلو نيرودا” ليحل مكانه “سيلفادور الليندي” عم الروائية التشيلية “إيزابيل الليندي” ليصبح أول رئيس تشيلي منتخب.

كانت تشيلي تعيش هذه الأجواء الحرة نوعا ما قبل أن يجثم الانقلاب العسكري على أنفاسها عام 1973م، ذلك الانقلاب العسكري الذي قاده الجنرال أوغستو بينوشيه بدعم وتأييد أمريكي وراح ضحيته عددا من الضحايا أولهم رئيس تشيلي الاشتراكي المنتخب “سيلفادور الليندي” الذي تحدث عنه الشاعر التشيلي بابلو نيرودا في مذكراته “اعترف بأنني قد عشت” قائلا: “جاء لكي يقوم بإجراء إصلاحات وتأدية مهام عادلة لا يمكن تأجيلها”، ولكن يد الانقلاب امتدت له قبل ذلك، واصفًا نيرودا ذلك بقوله: “اغتيل الليندي لأنه أمم الثروة الأخرى المختزنة في جوف أرض تشيلي وهي النحاس”، ويردف: “إن أعمال الليندي وآثاره ذات القيمة القومية التي لا تمحى أغضبت أعداء حريتنا” ويتحدث بمرارة عن قصف القصر الرئاسي بقوله: “طياريون تشيليون نهشوا وانقضوا على القصر الذي كان خلال قرنين من الزمن مركز الحياة المدنية في البلاد” ويكمل: “إني أكتب هذه السطور العاجلة في مذكراتي بعد انقضاء ثلاثة أيام فقط على تلك الأحداث التي لا يمكن وصفها والتي أدت إلى موت صاحبي ورفيقي العظيم الرئيس الليندي. لقد أحاطوا اغتياله بجدار من الصمت ودفنوه سرا”.

 إذن وضع الانقلاب من جديد الأدباء والفنانين بمواجهة السلطة والديكتاتورية حيث كشر عن أنيابه بوجههم مبكرا منذ الأيام الأولى للانقلاب حيث تم اغتيال المغني والموسيقي التشيلي “فيكتور جارا” في الأستاذ الرياضي وهو يعزف أغانيه الاحتجاجية والمناهضة للانقلاب ومنها أغنيته الشهيرة “الشعب الموحد لا يهزم أبدا”، ذلك المغني الذي ما زال الشعب التشيلي يتذكره كرمز من رموز النضال في أمريكا اللاتينية قاطبة وألف عن حياته عدد من الأفلام، بعد الانقلاب باثني عشر يوما مات نيرودا وكانت جنازة أشبه بمظاهرة احتجاجية ضد الانقلاب رغم العساكر المدججين ببنادقهم ومصفحاتهم التي كانت تملأ الشوارع حينها، العساكر الذين كما لو كان يصفهم نيرودا في آخر كلمات كتابه الذي حوى مذكراته وهم مصطفون في الشوارع أثناء مراسم جنازته :” عساكر تشيلي الذين عادوا ليخونوا تشيلي مرة أخرى”. هذا الجو العسكري المستبد استفز الكتاب والفنانين لمقاومته والتعبير عن وحشيته فكانت رواية غابرييل غارسيا ماركيز الشهيرة “خريف البطريرك” التي ألفها في تلك الأثناء أبرز مثال يجسد تلك الحقبة، هذه الرواية التي وصفتها الروائية التشيلية إيزابيل الليندي بقولها :”حدث في تشيلي الانقلاب العسكري والديكتاتورية الأكثر وضوحا في العالم. لقد اهتم العالم كثيرا بتشيلي، لكن الطغاة كانوا في كل أنحاء أمريكا اللاتينية، كانوا قريبين جدا. بدأت الحرب القذرة في الأرجنتين، و في الأوروغواي حيث كان الوضع فظيعا. ثم في البرازيل، وفي كثير من المناطق، لم يكن هناك مكان للذهاب إليه. كانت جماهير الناس يهربون بعيدا عن أوطانهم في محاولة للعثور على ملجأ في مكان آخر، وبعد كل ذلك يجدون هناك ديكتاتورا جديدا في مكان آخر. كما حدث لكثير من التشيليين الذين ذهبوا إلى الأرجنتين وماتوا فيها. لذلك ذهب- غارسيا ماركيز الذي كان واعيا بكل هذا وقد عاشه في بلده إبان شبابه- إلى باريس، هرب بعيدا عن الحكومات القمعية، وكتب عن ذلك من هناك. في كتابه “خريف البطريرك ” كتب بفنية عظيمة عن كل أمريكا اللاتينية، لخص فيه رعب الحكومات الاستبدادية والجهل والاعتداء والاستغلال والقتل. أعتقد أن ذلك الكتاب يمثل كل الديكتاتوريات”.إيزابيل الليندي التي كانت من أبرز من أنكوى بنار هذا الانقلاب ليس فقط لأنها كاتبة صحافية آنذاك ولا لأنها ابن أخ الرئيس سيلفادور الليندي وإنما ثلاثة أسباب تلخصها بقولها :” لقد كنت نسوية ويسارية وقريبة لسلفادور الليندي، ثلاثة أسباب للديكتاتورية العسكرية لتجعلني تحت المراقبة”. هربت بعد ذلك الليندي مع أطفالها وزوجها إلى المنفى إلى “فنزويلا” وكتبت أولى رواياتها هناك. 
ورغم كل ذلك كانت إيزابيل الليندي متفائلة بسقوط الديكتاتور وعودتها إلى تشيلي مجددا حتى قالت بعد أربعين عاما من الانقلاب: “مضت أربعون سنة على الانقلاب العسكري وسيصبح بينوشيه فيما بعد مجرد اسم نخيف به الأطفال في حكايات ما قبل النوم”.كانت تشيلي آنذاك وما تزال تزخر بكثير من الأسماء المشهورة على مستوى العالم في الشعر والفن والرواية من هؤلاء الروائي لويس سبولبيدا صاحب رواية “قصة النورس والقط الذي علمه الطيران” ورواية “قطار باتاغونيا السريع” وغيرها والذي اعتقل بعد الانقلاب لمدة سنتين ونصف ثم أطلق سراحه نتيجة تدخل ألماني بشرط الإقامة الجبرية ثم حكم عليه بالسجن مدى الحياة ثم خففت إلى ثمانية عشر عاما. يصر سبولبيدا على ضرورة عدم نسيان تلك الحقبة بقوله: “كل البلدان التي عرفت حكما ديكتاتوريا، فُرض عليها النسيان باعتباره مصلحة عليا. إن تجاهل التاريخ يدفع الناس إلى العيش في حاضر أبدي، بدون معرفة التاريخ لا يمكن أن نتخيل المستقبل من أجل تغيير الحاضر. من الضروري حفظ الذاكرة لبناء المستقبل”؛ كما يصف سبولبيدا آثار الانقلاب المستمرة حتى اليوم على اقتصاد تشيلي فيقول: “إن الحقيقة الاقتصادية لتشيلي هي أيضا من مخلفات الديكتاتورية. فإلى حدود سنة 1973م كان تشيلي يصدر منتوجات مصنعة وقليلا من التكنولوجيا أما اليوم فإن تشيلي بلد بلا تكنولوجيا ولا يصدر إلا الفواكه ويستورد التكنولوجيا. ستدوم آثار الديكتاتورية طويلا. تحت حكم “بينوشيه” تمت خصخصة الاقتصاد التشيلي لقد منحنا كهدية جزءا كبيرا من المقاولات إلى المستثمرين الأجانب، وبسبب الرشوة منحت هذه المقاولات لعدد قليل من الناس”.
_______
*الرياض

شاهد أيضاً

أول رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي

(ثقافات) أوَّل رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي: أركيولوجيا الصورة في رحلة ابن بطوطة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *