الدنجوان غوستاف كليمت بين الفن والنساء




رؤيا سعد


خاص ( ثقافات )
“من يريد أن يعرف عني شيئاَ لا بد وأن يمعن النظر جيداً في أعمالي..
تلك هي أناي، ولكنني، أحس بالجنون، ما أنا إلا مجنون ومسكين على الأغلب…”.
اشتهر غوستاف كليمت كونه دونجوان لنساء عديدات، حيث عاشر أغلب موديلاته. أعماله الفنية وما يدور حولها من شائعات وقصص كفيلة بإثارة مخيلة المتلقي وفتح شهيته على عالم إيروتيكي غامض، وقتها، ومحاط بالثقيل من أحكام التابو الاجتماعية والثقافية، وكذلك القانونية أيضاً، إذ إن فيينا آنذاك: أواخر القرن التاسع عشر ومطلع العشرين ليست فيينا الصاخبة المتحررة اليوم، ولعل ردود الفعل، المحافظة، التي قوبلت بها أعمال كليمت، هي ذات ردود الفعل المحافظة والساخطة التي قوبلت بها، حينها، أبحاث الدكتور سيغموند فرويد 1856′ 1939، ففي وقت كان فيه فرويد، في فيينا، يواصل حفره العميق في الخبايا الدفينة للنفس البشرية كاشفاً عن سطوة الجنس وتأثيراته العالية هناك، كان كليمت يحول ذلك الكشف الريادي إلى بورتريهات وجداريات ولوحات تنهل، مجتمعة، من حضور الأنثوي وتأثيراته الحسية والروحية فينا وفي ما ننتجه من ثقافة ووسائل إبداع، فقد اختار الفنان لنفسه، منذ بداياته تقريباً، درباً فنياً ليس بالسهل أو المخترق من قبل، بل هو الدرب الذي لا يتقاطع أو يلتقي مع ما عرفه الرسم، إلى ذلك الوقت، من دروب وفلسفات خاصة بصورة المرأة في اللوحة الفنية… صورتها العارية تحديداً. 
لهذا، وانسجاماً مع طبيعة كليمت التي لا تميل، على الرغم من كثرة المعارك النظرية التي خاضها أثناء حياته، لا تميل للحديث عن الأنا وتعريف محمولاتها باللغو والكلام، بل، وعبر لغة واحدة هي لغة الريشة والألوان وأقلام الرصاص التي أحبها وأبدع من خلالها، لهذا لم يقل كليمت الكثير عن نفسه ولم يترك، على هذا الصعيد، سوى الرسائل الأربعمائة التي تبادلها مع عشيقته “إيميلي فلوكه” إذ يمكن للقارئ هناك أن يتابع عن كثب ما دار في نقس الفنان من تصوُّرات فنية ووجودية وما كان يؤرقه من هواجس ورؤى إلى جانب ما يعمل على إنجازه من أعمال، أتم بعضها فعلاً ولم يتمكن، على أثر الجلطة الدماغية التي داهمته وحولته إلى طريح فراش دائم قبل أن تقضي عليه تماماً، لم يتمكن من إتمامها وتقديمها.
لوحات كليمت، بهذا المعنى، هي روحه الحقيقية فعلا، هي التعبير الأدق عما تثيره الأنثى من غوايات وفانتازيا شهوانية بقدر ما هي فلسفية لديه… فالأنثى، عنده، هي العالم كثيف الأسئلة، أسئلة تستحق الطرح واجتراح الأجوبة، ولكنها للأسف، يقول هو في إحدى رسائله: “أسئلة بلا أجوبة…. لا في الرسم ولا في الأدب، ولا خيار لنا سوى القبول بتلك الأسئلة الغامضة ومواصلة الرقص من حولها. وقد دار كليمت إلى النهاية حول تلك الأسئلة “النساء”‘ فصورها عارية وجميلة مرة، وعارية وقبيحة الشكل مرات اخرى، مثل الأسئلة تماماً وبمثل سطوتها، فكل: “أمرأة سؤال، في اللوحة أو الفراش، وما عليَّ سوى التعاطي معها والقبول بسطوتها ‘ليصبح ذاك التعاطي، مع الوقت وكثرة العلاقات والاعمال، هو المعادل الأوَّلي لشخصية الفنان إذ لا يمكن الحديث عن كليمت ودراسة حياته وتركته الفنية الكبيرة دون التوقف، طويلا، عند عالمه النسوي الشاسع وتجلياته في اللوحة كما في التفاصيل اليومية للحياة ايضاَ.
بروح العاشق المهووس وبشغفه الابدي بتلك الاسئلة عاش كليمت ايامه ورسم لوحاته الفاتنة، وبذات تلك الروح صنع حكاياته الغرامية التي انتشرت مثل النار في الهشيم بين مختلف الاوساط الاجتماعية النمساوية حينها ولا تزال، إلى اليوم، تشكل مصدراً مهماً للأقاويل والشائعات إلى جانب الدراسات النقدية التي تتناول حياته أو تؤرخ لها، فهو الرسام الأول الذي تجرأ آنذاك على تجاوز حدود علاقاته الغرامية مع عديد موديلاته، إلى إقامة علاقات من النوع ذاته مع نسوة الطبقة المتوسطة والبرجوازية اللواتي عهدن إليه بتحويلهن إلى بورتريهات تقليدية أو لوحات كاملة، كما هو الحال مع السيدة “أديليه بلوخ باور” التي رسمها واقفة في لوحة شهيرة تحمل اسمها وتكشف، هنا تبرز خصوصية الرؤية الفنية لكليمت، عن الجانب الإيروتيكي الكامن في تقاطيع وجهها وطبيعة وقفتها، فما نقله الفنان في لوحته، يقول النقاد، ليس هو بالضرورة ما كانت تعبر عنه السيدة أو تبرزه من مفاتنها المثيرة، بل هو الجزء الذي كان يبحث عنه كليمت في الأنثى ويسعى لتصويره، أما الشائعات التي أحاطت باللوحة حين ظهورها فقد عثرت، بدورها، على علاقة غرامية بين الرسام والسيدة البرجوازية وما اللقطة تلك، بالتالي، سوى صورة عن اللحظات الحميمية التي جمعت بين الاثنين، وهو الأمر الذي لم ينكره كليمت أبداً.
واصل كليمت بعد لوحته تلك ترسيخ “المرحلة الذهبية” التي كان قد أطلقها قبل ذلك بعدة سنوات: استخدام مكثف للخطوط المذهبة التي تغطي أجزاء كبيرة من اللوحة وتلتف، بصورة خاصة، حول الوجوه والأجساد التي يرسمها. وهي المرحلة التي ستجد تألقها الفعلي مع لوحته الأكثر شهرة عالمياً: “القبلة” في العام 1907.
من لوحة هنا إلى أخرى هناك، ومن مغامرة نسائية مع هذه أو تلك: “ترك كليمت خلفه العشرات من اللوحات الشهيرة والمئات من الرسومات الخطية والجداريات، إلى جانب ما خلفه من أبناء: تم رصد وتثبيت أربع عشرة منها، من عديد العشيقات، علماً بأنه لم يتزوج أبداً”، غرس كليمت اسمه، بين هذا وذاك، عميقاً في الذاكرة الجمعية لعشاق الرسم: الجريء منه على وجه الخصوص. فهو الفنان الريادي الأصيل وسيد فكرة القطع الضروري، كما رأى، مع مدارس الرسم التقليدية ووضع حجر الأساس لمدرسة “الانفصال الفني” التي لا تزال وستبقى تحمل اسمه الاستثنائي: جنوني المعنى عادة، كما يحمل التاريخ الفني عموماً سؤاله الساخن.. جنوني التفسير بدوره: سؤال الأنثى، الذي لم يتوقف غوستاف كليمت عن الرقص حول ناره والاكتواء الأبدي بلهيبها.
تزّوج أرنست كليمت من «هيلين» شقيقة إميلي في عام 1891. وبعد فترة وجيزة بدأ غوستاف كليمت علاقته الطويلة مع إميلي المرأة التي صارت ملهمته بامتياز وباتت مصدراً لكثير من الكتابات الأدبية٬ وهي لم تكن ملهمة كليمت فحسب، بل كانت واحدة من ألمع مصمِّمي الأزياء في فيينا بين عامي 1904 و٬1938 وأّسست دار الأزياء الخاصَّة بها عام 1904 بالتعاون مع شقيقتيها هيلين وبولين وكليمت نفسه. لم يستطع كليمت أن يقول نعم لامرأة واحدة بحسب إحدى المدونات العربية. مع ذلك٬ يقال إنه كان أباً لـ14 طفلاً على الأقل. ربطته قصص حّب مع نساء كثيرات من الطبقة المخملية، لكن كل هذا تغيّر في اللحظة التي قابل فيها إميلي التي كان عمرها آنذاك 12 عاماً. ويذكر دارسو سيرته أنه لو افترضنا وجود منافسة لإميلي٬ فلا شكَّ في أنها كانت ألما شيندلر التي كانت في سنِّ التاسعة عشرة عام 1898 وكان كليمت مفتوناً بها٬ غير أن والدها سارع إلى كبحه وأبعده عنها.
* مترجمة وتشكيلية عراقيَّة.

شاهد أيضاً

“أثر على أثر” معرض لمفاضلة في المتحف الوطني

(ثقافات) “أثر على أثر” معرض لمفاضلة في المتحف الوطني برعاية العين د. مصطفى حمارنة ينظم …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *