*محمد إسماعيل زاهر
في رواية “يوميات سنونوة” للكاتبة البلجيكية إيميلي نوثومب يأكل البطل المجرم الكراس الذي يشمل مذكرات ضحيته، بعد أن يحبها، يكلف رئيس عصابة هذا الشاب بقتل إحدى الفتيات والحصول لسبب ما على مذكراتها، وبعد أن يقوم بمهمته يدفعه الفضول إلى قراءة هذه المذكرات، فيقع في غرام صاحبتها ويقرر عدم تسليم أسرار فتاته، ولا يجد من سبيل إلى ذلك بعد الضغط والتهديد بالتعذيب إلا أن يأكل أوراق حبيبته الشخصية/ مذكراتها . هو آكل الورق أو الكتاب بمعنى ما، دلالة وظفتها نوثومب طارحة علينا الكثير من الغموض الذي يمكن قراءته دلالياً والاستمتاع به جمالياً .
“آكل الكتاب” أو كما نعرف بالتعبير الشائع “دودة الكتب”، ذلك التوصيف الذي يطلق على كل من يلتهم الكتب، يخصص حياته للقراءة وينضم إلى طائفة كبار القراء، تتحول الكتب لديه إلى مادة مأكولة وربما حُلمية، يتنقل بنا بثقل أو بخفة بين الكتب والمكتبات أو يتوقف أمامها ليسأل عن الآفاق التي تفتحها أمامنا، يؤرخ لها مكانياً ويبصرها وكأنها سينوغرافيا مسرحية، ويحلل كل ما يرتبط بها من مفردات، وذلك ما نشعر به ونحن نطالع ألبرتو مانغويل سواء في تأملاته لمكتبته بالليل أو ترحاله في تاريخ القراءة، “كتاب” مانغويل ثقيل، يحيط بك من الجهات كافة، لا يترك لك فسحة لكي تتنفس، فكتابته لا تحتاج إلى رئة، لا مسافة بين مانغويل وقارئه، هناك زحام يبدأ من برج بابل ولا ينتهي بدلالات الإهداءات على الأغلفة الداخلية للكتب، هو يثقل كتابه بالمعلومات، ولا يوجد ما بين السطور .
مع بورخيس الكتاب خفيف، يلمسك برفق، يمنحك بورخيس دهشة الطفل وهو يمسك الكتاب للمرة الأولى، الكتب لديه تنفتح على كل ما هو غير متوقع، تشبه إلى حد كبير كنز متروك في مكان ما ولا نعرف مكوناته ومحتوياته، هناك المخبوء دائماً، الكتاب لدى الكاتب الأرجنتيني جملة مفتوحة وعلى قارئه أن يقوم بمحاولة إكمالها أو العطف عليها، لا نهاية لها أو إمكانية لوضع نقطة تختتمها لتبدأ جملة أو فقرة أخرى، لقد فهم بورخيس الكتاب كما الصينيون، فالكتاب مرآة العالم، وفي المرآة هناك زوايا نظر جديدة يمكن إضافتها لكل من يتطلع في المرآة أو يمكن اكتشافها لكل متأمل، وهو ما عاشته الفتاة هازيل في رواية “زئبق” لإيميلي نوثومب أيضاً، فالقبطان الذي يختطفها ويحبسها في جزيرة معزولة يحرم عليها النظر في المرآة، فتستعين بالقراءة، وعند محاولة شهرزاد الجديدة الهرب من القصر تستخدم الكتب بوضعها فوق بعضها البعض للوصول إلى النافذة العالية، والرواية نفسها تستكمل الروح البورخيسية عندما تكتب لها نوثومب خاتمتين مختلفتين . مع بورخيس يمكنك أن تلمس الكتاب وهو يتجول بك بين كائناته الوهمية المستنبتة من الحكايات القديمة والتي ينتابك الخوف من مجرد تخيلك التقليب في صفحاتها المهترئة، لا تشعر مع بورخيس أنك تطالع أحدث طبعة من القزويني أو ألف ليلة وليلة، ولكنها طبعة ربما وجدت ملقاة بإهمال في مكتبة شاب فرنسي قتل في الحرب العالمية الأولى وترك كتبه ومتعلقاته في غرفة ما زالت تحتفظ بهيئتها الأولى، كما ورد في خبر للبي بي سي مؤخراً، مكتبة بورخيس تفوح كثيراً برائحة الزمن وأحياناً برائحة تزكمك كما “عطر” باتريك زوسكيند .
عندما تود أن تستمع إلى الكتاب لا يمكنك الإفلات من أجواء الفرنسي لوكليزيو، والطبيعة هنا هي المتحدث أو المتكلم، ففي الكثير من رواياته يصمت البشر، في “موندو” و”الحوت” و”الإفريقي” لا يتسلل إليك إزعاج أحدهم ويكاد صوت المؤلف نفسه أن يتلاشى، الكتاب هو المتحدث والذي ربما يعلو صوته ليطغى حتى على صوت القارئ المتأمل، هو يعيد إلى الأذن “نداء البداءة” أو البراءة، إن الراحة التي تمنحنا إياها طبيعة لوكليزيو تتلاشى عندما تقتحمنا أصوات خائفة تنتمي إلى طبيعة أخطأت طريقها إلى المدينة، أشجار هيرتا موللر تهمس بالرعب، يغيب عنها صخب وفرح لوكليزيو، هو الفزع من الطغيان عندما يصل إلى ما لا “يشعر” أو ما نتصور أنه كذلك .
الكتب لا تداعب الحواس ولكنها تشعر بذواتها، فلا يمكن لكتاب أن ينقل إليك إحساساً بالحزن والأسى إلا وتشعر أنه أوراقه تفيض بهما، لقد نجحت الطبعة الروسية من أعمال دستويفسكي في هذا، وبرغم أن الطبعة المصرية للمترجم نفسه، سامي الدروبي، إلا أن الرسوم المصاحبة للطبعة الروسية أو توافرها في الجناح الروسي في معارض الكتب أو شكل وإخراج الكتاب . . كلها عناصر أصابت الورق بأسى ما، ما زالت صورة راسكينوليكوف المرتجف في خلفية غائمة تداعب خيال كل من يحاول استعادة شعوره ب”الجريمة والعقاب” .
الكتب تشعر بالملل أيضاً، ذلك ما أحس به والتر بنجامين في تجربة الوقوف محاطاً بمئات الكتب، يصيب الملل الكتب عندما يكدسها البعض في الأرفف، من أجل الوجاهة أو ادعاء الثقافة أو التورط في بحث ما يفرض على صاحبها تخزين كم ضخم من الكتب التي يكتفي منها بمجرد التقليب بين الصفحات لاصطياد المعلومة، أو الوضع على قائمة القراءة . . . كلها عوامل تُشعر الكتب بالملل، ولكن الكثير من الكتب نمل منها أيضاً وخاصة مع بداية انخراطنا في القراءة .
مع هنري ميللر الكتاب لاحق للحياة، فالأهم التجربة، الكتب لا تمنحه الامتلاء الذي استمتع به بورخيس ومانغويل، الكتب التي أصابته بالأرق نادرة وقليلة، ومعظم الأفكار مستهلكة ويتم دائماً إعادة تدويرها، يصل ميللر إلى قناعة بعد حياة ملولة مع الكتب بأنه ينبغي على المرء أن يقرأ أقل فأقل .
الرسوم المصاحبة لكتب الأطفال وروايات اليافعين كانت تكسر الملل وتنقلنا إلى فضاءات مغايرة، القبعة الطويلة للظل الأسود على خلفية روايات أرسين لوبين لا يمكن إلا أن تقول إنك أمام حدوتة بوليسية مشوقة، وحركة العصا التي يمسك بها الظل تؤكد الشعور أننا سنطالع مغامرة جديدة للص الظريف، تلك الرسوم لها وقع خاص تم توظيفه في أدب الكبار أيضاً، اليد الممسكة بالمسدس في “اللص والكلاب”، والوجوه المرهقة والمتعبة التي تبوح بوجعها الخاص ربما رسمت لتخلد حرافيش نجيب محفوظ، والصور المستفزة للعقل والتي تحاول اقتحامه من خلال طرح مختلف زينت دائماً مسرحيات سارتر الصادرة عن دار الآداب اللبنانية .
الكتب التي تنقل الحب أو الكراهية، تُظلم العقول أو تنيرها، تحتفي بالحياة أو تحث على القتل، تثير الغضب أو الاضطراب، تتحاور مع الآخرين، تنقل ثقافتهم . . إلخ، لا بد أن يصاحبها شيء ما يعلق في ركن خفي في الذاكرة أو في اللاوعي يؤكد ويدعم هذا الإحساس أو ذاك، لا أدري لماذا كانت الطبعات المختلفة من أعمال إحسان عبدالقدوس تبوح بالحب الخفيف؟ أما أوراق روايات عبدالرحمن منيف فلا أتذكرها إلا زاعقة بكل ما يدين الواقع المؤلم الذي أراد الكاتب أن يعبر عنه، هل هو شعورنا بالكتاب؟ أم أن الكتاب يشعر بذاته؟ لقد كانت طبعات روايات الجيب وعبر عدة سلاسل توحي دائماً بأنها مترجمة عن الآداب العالمية، ربما هو قطع الكتاب الذي اكتشفنا بعد سنوات من انتهاء المراهقة أنه يشبه إلى حد كبير قطع الكتاب الأجنبي .
في الطفولة والمراهقة تحديداً وقبل تشكل الوعي سنلاحظ أن الكتب هي التي تحب وهي التي تغضب وهي التي تمارس المغامرة، عندما ندخل المكتبة في بداياتنا سواء تجولنا بين الأقسام المختلفة أو أرشدنا القائم على شؤونها، سنلاحظ أن اختيار الكتاب خارج عن ارادتنا، ولا يلعب اسم صاحبه الدور المؤثر الذي يمارسه فيما بعد، نحن ننقاد إلى تصنيفات كتب الأطفال أو الناشئة أو الكتب الرومانسية رغماً عنا، الكتاب هنا هو الفاعل، يحب ويتخيل ويغامر ويضحك ويبكي . . . إلخ .
هل نختار الكتاب أم يختارنا هو؟ هل تتشكل هويتنا وسلطتنا من خلاله أم أصبح يمثل سلطة وهوية في حد ذاته؟ هل يأكلنا أم نأكله؟ هي لعبة الوجه والقناع بين الفاعل والمفعول، فالكتب التأسيسية والمؤثرة والملهمة والمعاد اكتشافها والمكونة للوجدان والمحفزة للعقل والتي تعلق في الذاكرة والمثيرة للمعارك . . إلخ هي بكل تأكيد كتب فاعلة، وهي أيضاً الكتب التي تتعرض للمصادرة والمنع والرقابة والتمزيق والحرق، تؤكل مرتان، الأولى عندما تلتهمها عقول تنشد الأمام والمقبل والتقدم والنهضة، والثانية حين تحرمها رؤى تدعي أنها، أي الكتب، ساحرة شريرة تلتهم عقولاً تعودت على الانقياد والطاعة من دون مراجعة أو نقاش . – _______
*الخليج الثقافي
شاهد أيضاً
ليتني بعض ما يتمنى المدى
(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …