في ذكرى رحيله.. خيري شلبي أديب “المهمّشين” و”الصعاليك”


محمد فايز جاد


أربعة أعوام مرت على رحيل الروائي المصري خيري شلبي (31 يناير 1938 – 9 سبتمبر 2011)، أو كما يحب أن يناديه محبوه من الجمهور، والنقاد، “أديب المهمشين”. 

بيد أن نظرة متفحصة إلى إنتاجه كفيلة بأن تخبرنا بأن هذا اللقب ينقصه شيء؛ ذلك أن “عم خيري” بالرغم من أنه استطاع ببراعة خلال أعماله أن يقترب من حياة المهمشين، الذين كان واحدا منهم، فإنه كان سباقا إلى اختراق عوالم الصعاليك، ورسم صور مقربة للصعاليك، الذين لم يعرفهم الأدب، إلا في أعمال نادرة، سوى في صورة سطحية تصورهم من الخارج، بصورة لا تختلف  كثيرا عن رؤية رجل الشارع. 
كانت براعة خيري شلبي تكمن في اقتحام شخصية الصعلوك، وتصوير أدق جزئياتها، وخلجاتها وانفعلاتها، وقراءة أفكارها وكشفها على الورق، بعين داخلية لا بعين المصور فقط. 
إن من يقرأ حياة شيخ الحكائين سواء فيما كتبه، أو فيما رواه عنه أصدقاؤه وأبناؤه، يعرف أن حياة خيري شلبي كانت هي الينبوع الذي انفجر منه هذا التدفق الأدبي الثري. 
ابن شباس عمير الذي ولد في 31 يناير 1938 عاش حياة لا تختلف كثيرا عن حياة أولئك المهمشين الذين كانوا مادة خصبة لرواياته، وقصصه القصيرة وحكاياته. فقد كان خيري شلبي منذ صغره واحدا من عمال “التراحيل” الذي يعملون في تنقية القطن من الديدان والآفات، الأمر الذي انعكس بعد ذلك على أحد أهم أعماله، وهو رواية “الأوباش” التي صور فيها حياة عمال التراحيل، وما كانوا يلقونه من معاملة لا يمكن أن توصف بالآدمية، في غير مبالغة، ودون أية نبرة بكائية تقليدية. 
هذه الحياة الريفية، والعمل الشاق، مكنا خيري شلبي من تصوير الحياة الريفية، وصناعة الشخصيات الريفية البسيطة “المهمشة” كما في روايته الوتد، التي استطاع شلبي أن يرسم فيها صورة من المجتمع الريفي، بكل ما يحمله من عادات وتقاليد وأفكار، وما يحويه من شخصيات متباينة، لا يجمع بينها سوى البساطة، والتهميش. 
لقد تميز شلبي في رسم حياة الصعاليك؛ حيث إن أحدا من الأدباء لم يجعل من الصعاليك أبطالا لرواياته بهذه الطريقة التي قدمها خيري شلبي في أكثر من عمل. 
ومرة أخرى تطل حياة خيري شلبي من جديد؛ فكما كانت أعماله الريفية انعكاسا لحياة عاشها، فإن أعماله عن عوالم الصعلكة لم تكن إلا جانبا من جوانب هذه الصورة الكبيرة. 
خيري شلبي الذي تعلم الحياكة، والسمكرة وغيرها من الحرف اليدوية جرب حياة الصعلكة في شوارع القاهرة، فطاف في شوارعها بجيب خال من النقود، وبطن خال من الطعام، يبيت في فندق إذا امتلك في جيبه عشرة قروش، وما أقل ما كان يمتلك، وما أكثر ما قضى الليالي سائرا في شوارع القاهرة، حتى صار ظاهرة محيرة لمرتادي وسط القاهرة، وصار زميلا للشاعر الكبير أمل دنقل الذي عاش حياة لا تقل قسوة عن حياة شلبي في عالم الصعلكة. 
ارتاد شلبي عوالم محفوفة بالمخاطر، تحوي نماذج من البشر لا يمكن أن تتخيل وجودها سوى في الأفلام، فرأى القوادين واللصوص وتجار الحشيش، حتى أنه  حكى عن هذه الفترة قائلا: “رأيت الوجه الحقيقي لتاجر الحشيش وهو يجلس أمامك يقسم قطع الحشيش ويأخذ رأيك في جودة الأصناف وأسعارها، وعندما أتذكر ذلك الآن يقشعر جسمي من هذه الجرأة التي كنت فيها وكيف كنت أعيش مع أناس يبحث البوليس عنهم من سنوات ولا أخشى أن يقبض عليّ معهم إذا باغتهم فجأة”. 
هذه الفترة العجيبة تمخضت عن عدة أعمال أكدت اسم خيري شلبي كواحد من كبار الأدب الواقعي، وواحد من أبراع الحكائين الذين خاضوا بحكاياتهم في أماكن لم يعرفها أحد قبلهم. 
لعل من أبرز هذه الأعمال رواية “وكالة عطية”، هذه الرواية التي يحتل دور البطولة فيها صعلوك طرد من مدرسته في العام الأخير لتعديه على أستاذ له والتسبب في عاهة مستديمة له، ليدخل السجن، ثم يخرج باحثا عن ملجأ له، ليكون هذا الملجأ هو “وكالة عطية”. 
ووكالة عطية بناء كان استراحة خاصة بالملك فاروق، وبعد هجره تحول لوكالة يشرف عليها “شوادفي” لتكون محل إقامة لمجموعة من الباعة الجائلين، و”القرداتية”، واللصوص وجامعي الأعقاب والمجرمين والقوادين. 
في هذه الرواية يغوص شلبي داخل شخصية الصعلوك المتعلق بين الأمل واليأس، الذي يملك قدرا طيبا من الثقافة يعيش به بين مجموعة من الأميين، الذي يتحرق شوقا لسيجارة معاد تدويرها بعد أن تم حشو التبغ المتبقي في أعقاب يلتقطها الأطفال في الشوارع، في ورق “بفرة” رخيص. 
كما يصور شلبي، بعين الصعلوك البطل، مجموعة من “البورتريهات” للصعاليك شركائه في الوكالة، مصورا حياتهم وعملهم وعلاقاتهم، الشاذة في كثير من الأحيان، بل وقيمهم ومبادئهم. 
لم يتوقف خيري شلبي في عالم الصعاليك عند هذا الحد، بل بلغ الأمر أن وضع اسم أحد الصعاليك عنوانا لروايته، وهي رواية “صالح هيصة”، التي كان بطلها أحد العاملين بـ “غرزة” بمنطقة عابدين بوسط القاهرة، وهو شخصية حقيقية قابلها في إحدى الغرز. 
بوابة الأهرام

شاهد أيضاً

أول رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي

(ثقافات) أوَّل رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي: أركيولوجيا الصورة في رحلة ابن بطوطة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *