رلى راشد
تُعلن الأمّ أن الذنب ليس ذنبها وأنها لا تدري ما جرى على وجه التحديد. لم تحتَج لأكثر من ساعة بعد أن سحَبوا الرضيعة من بين ساقيها لتدرك أن مكروها حصل فعلا. لم يكن لون بشرة الوليدة ليرضيها، ذلك أنها كانت سوداء جدا، إلى حدّ أخافَها “سوداء كمثل منتصف الليل. سوادٌ سودانيّ”.
على هذا المنوال، تنصرف توني موريسون، الكاتبة الأميركية الظافرة بـ”نوبل” الآداب عن استحقاق، في نصها الأحدث “ليساعد الله الطفلة” إلى الإحاطة بفتاة بهوية لولا آن برايدويل، ستُطلق على نفسها لاحقا إسم “برايد” (أي العروس). إنها لحظة الولادة التي عَنَت في السياق، لحظة نبذ إستهلالية سيجري مطّها خلال رفّ من الأعوام التالية.
يأتي النبذ من جهة الأم أولاً واضعة حاجزا لُغويا مع ابنتها ومصرّة على أن تدعوها بإسمها سويتنيس (ويعني اللطافة بالإنكليزية، ويا للمفارقة) عوضا من أي تعبير سواه ربما دلّ على صلة دمّ جمعتهما. يحلّ النبذ من جهة الأب ثانية، الرجل الذي قاصص زوجته على الإتيان بطفلة داكنة إلى هذه الدرجة سيعاملها كأنها شخص غريب بل كأنها خصم.
“ليساعد الله الطفل” هي النافذة الروائية الحادية عشرة في مسار موريسون الصوت الأميركي الذي حرّك كثيرا من المُستتب والراكد في موروث أمريكي خطفه البيض طويلاً إلى فسحة الإجحاف والإستبداد، وها هنا تتكور التفاصيل القاسية على فكرة واحدة لم تنفك تؤرق نثر موريسون: مفهوم العرق. يُحرّك هذا النسق من الإنتماء الشخوص التخييلية لأنه يشكّل في منظور الروائية، الوسيلة الوحيدة المُفضية إلى تصنيف الكائنات.
لا يختلف مناخ النص الأحدث عن سابقاته من حيث اللوذ بجمل مقطوفة ومُشبعة بالحركة وبشيء من الغنائية، وحيث البهاء اللغوي لا يطغى على العاطفة اللمّاحة. لا نجد كلاما فائضاً بلا جدوى ولا نتعثّر بذرائع واهية بغية ملء الجمل بثرثرة لا فائدة منها. ها هنا يتقدّم الأميركيون من أصول افريقية في وسط هذه الفسحة التأليفية، مجموعة على خصوصية يتحدّث أبناؤها لغة إنكليزية بإيقاع خاص تجعلهم عفويا خارج سياق المجموعات الأخرى.
تحمل برايد إسما مخترعا وتحاول في شتى الأساليب إعادة اختراع حياتها. تصير برايد في حياتها الراشدة شابة فاتنة وناجحة مهنيا بيد أنها تحاول الإفلات من مأساة أيام الإهمال البدئية، ومن وزر كذبة أطلقتها وأوصلَت إحدى السيدات الى الزنزانة. تحاول برايد العيش في أعقاب التروما، وحين تُدرك الشابة قدرة الجمال على التحوّل إلى سلاح فتّاك، يصلُ التململ إلى أقصاه. نقرأ في سطور عن التلاطم النفساني المستبدّ بها “أنا مذعورة. أُصبتُ بأمر سيىء. أشعُر اني أذوب. لا يسعني أن أشرح لكَ الأمر لكني أعرف متى بدأ كل شيء. بدأ بعد أن قال “لستِ المرأة التي أريدها”. “ولستُ المرأة التي أريدها أنا حتى”. لا أعلم لماذا قلتُ هذا. خرج الكلام من فمي على نحو تلقائي. حين سمع جوابي اللعوب رمقني بنظرة حاقدة قبل أن يرتدي بنطاله الجينز. ثم التقط جزمته وقميصه. عندما سمعتُ صفق الباب، تساءَلت إذا كان ينهي الآن مُشاجرة سخيفة فحسب أو كان يُنهينا. إذا كان ينهي علاقتنا”.
يتحرّك في وسط السرد نساء يُبرزن قدرتهن على الحب وعلى التدمير ويحاولن النجاة بأنفسهن من وشم الطفولة المضطربة، من خلال مجابهة الحاضر والإستعداد لاعتناق المستقبل. يضجّ السرد بالحيوية في إطار هندسة متقنة تشكل عمودا روائيا لا يهتز وإن اختلفت القصص. لا تلبث الحكايات التي تحويها الرواية أن تتوزع في يسر متقن، قبل أن تنصهر كأوعية متداخلة.
تتقرّب موريسون من جميع هذه الأفكار عبر واقعية فجّة وإن تلبّست برداء الغنائية أحيانا، بينما لا تتردد في استقدام مناخ الواقعية السحرية أو ربما هو مناخ تحوّلات أوفيد أيضا، ذلك انها تجعل جسد برايد يتقلّص في احدى اللحظات بينما يندثر شعرها. ترى برايد دون سواها هذه التبدلات التي تقذفها مجددا إلى بوتقة البداية، إلى حال الطفلة المُهددة بالتبدّد.
تلقي موريسون لأول مرة احدى رواياتها في الحاضر وتحديدا في كاليفورنيا خلال القرن الحادي والعشرين. تخيط سيدتان هما برايد وسويتنيس سطور الحكاية فضلا عن شخصيات ثلاثة إضافية تتّخذ كل واحدة في إحدى اللحظات، صوت الراوي على امتداد الفصول المتلاحقة. ولأن هؤلاء عانوا جميعا نسقاً من الإستغلال خلال الطفولة يتخطّى النص الروائي عندئذ وظيفته في فتق دمل العنصرية.يصير مرتعا لنفوس بريئة وَسّخَها ألم سحيق.
النهار