بقعة حبر على قميصٍ أبيض


*حيدر عودة


خاص ( ثقافات )
إلى عَينَي شوقي عبد…
أطفأ محرك سيارة الأجرة البيضاء التي كان يقودها بعد ان ركنها جانبا منتصف الجسر السريع المرتفع؛ ذلك الجسر الذي يربط أكبر المناطق المحيطة بمركز مدينة San Diego .
كان يتنفس بصعوبة حينما نظر في المرآة الصغيرة أمامه. وجد نفسه يفتح عينيه الواسعتين كما لو كان يريد أن يمعن فيهما أكثر. ربما أراد أن يضغط بقوة على أسنانه حينما فكر أن يعض على أحلام قديمة قبل ان تغيب مرة اخرى. باب السيارة الذي فتح بحركة لا إرادية من يديه اعترض نسمة هواء لم تسلم من الغبار مع حبات رمل طيرتها السيارات المسرعةً. لم يعد الخطوات التي خطاها صوب سياج الجسر الذي ارتفع الى مستوى أصابع كفه. أمسك بحافته من دون أن يشعر ببرودة الحديد. لكنه لم يعد يتذكر إن كان قد شدّه منظر المدينة في تلك الساعة المبكرة من الصباح مثلما شده في تلك اللحظة. ظل على وقفته تلك لوقت ممطوط لا يمكنه تقديره عندما تأكد لديه ان مخاوفه قد وصلت الى أقصى نقطة يمكنه تحملها. هذه هي المرة الثانية التي تجتاحه فيها تلك الرغبة في أن يطير وقد ظن أنه قد تخلص منها الى الأبد. بدا حينذاك كالمأخوذ بها. .. لذلك لم يكن يرغب في مقاومتها: انتبه الى بقعة حبر انتشرت فوق قميصه الأبيض على جهة اليسار. تذكر انها ربما قد تكون بسبب القلم الذي نسي ان يحكم غطائه الليلة الفائتة قبل ان يدسه بعجالة في الجيب الأمامي. لا احد يعلم ..ربما يكون قد ابتسم ايضا وهو يطبق جفنيه على صورة لمدينة بعيدة عنه الآن، دافعا بجسده الى الامام، قبل أن يقفز قفزته الأخيرة تلك تاركا حرارة يديه على السياج الحديدي.
وصلتُ لمحطةِ باصاتِ وقطار مدينة El Cajon في شرق المقاطعة. كان ذلك يوم ثلاثاء في الساعة الثامنة صباحا. انه اليوم الذي قررتُ فيه أن أعمل سائق أجرة. كنت قد تحدثت مع الحاج معتوق الأفغاني لاستئجار إحدى سياراته. وجدته بانتظاري قرب سيارة أجرة نوع Ford، موديل 1997. تقدمت منه وصافحته. أخذ الرجل بيدي ليريني السيارة من الخارج والداخل. ثم شرح لي كيف يعمل عداد النقود. كان يتحدث بلطف وأنا أُنصت إليه بشرودٍ. انتهت جولته التي أرادها سريعة ليتسنى لي البدأ بالعمل بأسرع وقت. ثم ودعني بكلمات قصيرة بينما كنت أثبِّتُ رخصة القيادة الخاصة بسيارات الأجرة في موضعٍ داخل السيارة بحيث يمكن رؤيتها. وعلقت من ثم هوية السياقة بشريط أزرق حول رقبتي. 
ضوء النهار يسقط على زجاج واجهة المتجر الوحيد في المحطة وينعكس على عينيَّ نصف المفتوحتين. كنت أُراقب حركة الناس من خلف عدسات نظّارتي منتظراً راكباً ما: ثلاث نسوة بدينات يهبطن ببطء من أعلى المحطة. فَتَيان يحملان دراجتيهما الهوائيتين على كتفيهما لاهثين وكأنهما يصارعان لكي يبلغا ذروة الحياة التي تراود الفتوة فيهما. رجل عجوز يعبر الشارع الفرعي ويسير بلا مبالاة، ومن دون أن يتطلع من حوله. في الجهة الأخرى من الرصيف، ثمة رجلٌ ثملٌ يسأل عن الباص الذي يصل الى كازينو Viejas، التي تقبع أسفل جبال الهنود الحمر. 
تذكرت وجه إدوارد المسيحي الذي كان يشبه وجه الممثل عمر الشريف حين قال لي ذات مرة:
– اليوم هو الثلاثاء ولكنه يشبه الجمعة الحزينة.لكم ضحكنا معا! حينذاك لم يخطر في بالي ان ضحكته يمكن أن تختفي وتغيب وسامته. حدثني عن ذلك اليوم الذي ذهب فيه الى لوس انجلوس ليعرض نفسه كممثل عام 1972. إلتقطوا له مجموعة صور بأوضاع مختلفة وأخبروه بانهم سيتصلون به. لكنه بعد سنين من ممارسة العمل في ورشات تصليح السيارات نسي موضوع التمثيل الى الأبد. كان يضحك في كل مرة يتذكر فيها كيف مثَّل في إحدى شركات التمثيل مشهد سقوط الدكتور زيفاكو في محطة القطار. شعر بالنشوة وهو يتكىء على الجدار الكونكريتي الذي إمتد على طول سلالم أحيطت بسياج حديدي أحمر حيث مكان توقف القطارات السريعة. أخذ يدخن وقد كان خارجاً للتو من المستشفى. 
قلت له:
– يا رجل، أما زلت تدخن!
هزَّ يده قائلاً:
– لا يهم. أعرف أني سأموت قريباً. أعرف هذا. ثم أدار وجهه ناحية السياج، وهو يشعر بملامحه تتشنج، ونَفَسَه يضيع في نوبة من السعال. تركته وبدأت أمشي على الرصيف أسفل المحطة. كنت أتأمل وجوه المارَّة بين الحين والآخر وكأني استعيد وجوها أخرى بعيدة مرَّ أصحابها بغرفتي في حي السيدة زينب بدمشق – الغرفة كانت المحطة التي ينزل فيها المسافرون او يغادرون منها، وأنا ذلك الحارس الذي يتسلق السلالم او يهبط منها على الدوام. غير أني حين أجد نفسي لوحدي أصعد الى السطح المطل على البيوت نصف النائمة متذكراً تلك الليلة قبل عشرين عاما أو أكثر. لقد كنت في بغداد خائفا فزعا. فقررت الهروب لجهة الشمال. لم أفكر أن الأمر سيكون أكثر سوءً هناك. كدت أُقتل بعد أشهر من وصولي الى مدينة أربيل لولا تلك الصدفة العجيبة التي أنقذتني مع ثلاثة رفاق لي. وقبل أن يُقبض عليَّ قرب الحدود الإيرانية وأرمى في المعتقل خمس سنين مرعبة. كان إدوارد المسيحي قد إستعاد صوته أخيرا وكأنما خيوط مطر واهية تشبه خيوط دخان بدأت بالتساقط على المحطة.
حركة الناس بدت خفيفة ذلك اليوم الكئيب على ما يبدو هو الآخر، حتى حارس المحطة كانت نظراته غير مبالية وهو يقطع الرصيف ذهابا وإيابا. شعرت كأن ضبابا يلف المكان. شاهدت رجلا بلحية نصف بيضاء يتقدم نحوي. كان يبدو متعبا وحزينا. تصورت أني قد أعرفه، أو ربما كنت قد شاهدته في مكان ما. وصل الرجل قريبا مني وكنت قد ظننته ساعي بريد ربما جاء يحمل رسالة لي، لي وحدي: لكنه كان الحاج معتوق لا غيره. قال وهو يحدق بي:
– لقد مات إبنُ أخي علي. 
صَمَتَ دون أن ينتظر ردا مني، لكنه حين أسند جسده الى الجدار الكونكريتي راح يتهاوى ببطءٍ محدثا دوياً مثل سقوط حيوان ضخم. 
بعد منتصف النهار، ومع ارتفاع درجة الحرارة، ألجأ الى الظل عادة. جسدي يندفع بحركة لاإرادية الى جدار يحيط بالسلالم المؤدية الى أعلى المحطة. أحاول ملاحقة أحاديث سائقي سيارات الأجرة وهم يسردون حكاياتهم بلغة انكليزية مختلطة بعربية وفارسية. أراقب تقاسيم وجوههم وحركات عضلاتها وأعيد رسمها في الهواء. أفكر في حياتهم الماضية أو القادمة. كيف يمكن أن تسافر المدن أيضا، مأخوذين إليها كل تلك السنين؟! إن الأمر مؤلم كثيراً مع كل مرة يسردون فيها قصص هروبهم منها. تعلو أصواتهم وتشتد نبرتها، يحاولون تقريب الأمكنة والمدن من بعضها البعض، الخاصة منها والعامة، أمكنة مرئية وأخرى غير مرئية، يبنون مداخلها ومخارجها القديمة والجديدة، يراهنون على قوة بقائها، ومع ذلك لم يستطيعوا الحفاظ عليها، المدن تلك التي هربوا منها، أو تلك التي فتحت قلبها لهم، ومنحتهم أسرارها. يبتهجون وهم يستعيدون هزائم منسية ويرفعونها كأنها دروع إنتصار . يبدون سعداء!! لكن تلك السعادة لا معنى لها. خساراتهم تكبر في أوقات شرودهم أو حين تأخذهم نوبة نوم على مقود السيارة لكثرة ما فرطوا في أشياء كثيرة: مدن، أصدقاء، أمكنة، نساء لن يستعيدوهن أبداً، بل الذكريات نفسها ستبدو بعد حين مختلفة ولاتشبه نفسها. ستبدو حياتهم مثل دوائر متصلة لاتؤدي سوى الى ما يشبه دوران الكلب وتعقبه لطرف ذيله. أدفع بجسدي ثانية مبتعدا عن أحاديثهم. أراقب المارة في هبوطهم وهم يستندون على حواجز السلالم، أو في صعودهم نحو الرصيف المؤدي للقطارات المنطلقة كل خمس عشرة دقيقة فتمتد أيديهم بحركة تبدو موحدة وهي تسحب السياج الحديدي الأحمر. ثم سرعان ما تتفرق.
في مساء يوم الثلاثاء تهدأ محركات القطارات التي كانت تهزُّ المكان بين الحين والآخر. وتغيب الباصات أيضا فيما تخفت حركة الناس في المدينة. أدسُّ سيارتي في طابور يتسع لسبع سيارات أجرة. أدفع بخطواتي الى الرصيف وأجلس عند حافته مع السائقين في مشهد يومي. كان الحديث عن إنتحار علي قد وصل الى نهايته قبل أن يذكر أحدهم بقعة حبر إنتشرت على قميصه الأبيض في موضع الجيب الأمامي. فكرت أن علياً كان يضع قلما في جيبه ونساه قبل ليلة مفتوحا وعندما هوى جسده على الإسفلت بقوة، بدت بقعة الحبر تلك مثل نجمة تشع فوق كوكب محطم. ربما كان يكتب في ساعات الإنتظار الطويلة! لكن لا أحد قرأ ما كتب. 
بعد عدة شهور، كنت جالسا في سيارتي – كان ذلك بعد رحيل إدوارد المسيحي في ليلة خرج فيها من بيته ليشتري السجائر وكأنه كمن قرر أن لا يعود عندما انحرف بسيارته خلف جبالAlpine شرق المدينة ليختفي الى الأبد – حينذاك شعرت بشيءٍ ما يريد أن يخرج من جسدي . دفعت باب السيارة وركضت مبتعداً عن موقف الانتظار وأنا أشعر بثقل جسدي يضغط على قدميّ بقوة حتى وصلت الى أعلى المحطة. بدا الزمن القديم يتسرب حينها مثل خيوط ماء الى رأسي، غرفة حي السيدة زينب، شتاء أربيل، تسلق الجبال، …. أسأل نفسي. مرة تلوى اخرى : وماذا بعد؟ تحسستُ برودة السياج الحديدي الأحمر. حاولت إيقاف ما يشبه النزيف الذي كان يجرح جسدي تجريحا الى ان شعرت به خفيف الوزن تماما. ربما ارتفعتُ عن المكان، لا اعلم، أو حلّقتُ فوق رؤوس المارة وهم يندفعون من أبواب القطارت لتمتصهم الشوارع، أو تكبسهم الباصات. كل ما أتذكره الآن، أني كنت أكررُ مشهد سقوط علي من فوق الجسر السريع، ثم أهبط على وجه المدينة كريشة مبللة، وأنا أفكر ببقعة حبر انتشرت على قميصه الأبيض.
20/2/2015
ربيع سان دياكو
من مجموعة (قصص من كاليفورنيا) قيد الانجاز.
____________
*قاص ومسرحي عراقي، مقيم في كاليفورنيا-الولايات المتحدة الأمريكية.

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *