*د. شهلا العُجيلي
ليست المرّة الأولى التي أقوم فيها بذلك، أن أترك الوقت والفضاء المؤقّت، وأنساق وراء الشعر…
منذ ما يزيد على سنوات عشر، كان لديّ موعد مقابلة مع رئيس إحدى الجامعات، وفي اللحظة الأخيرة، تمّ تأجيله لساعة أخرى، بعد أن كنت قد اقتربت من بوّابة الرئاسة، ولم تعد العودة مجدية! أمام مبنى الرئاسة يقف كشك يبيع الصحف والدوريّات، وبعض الكتب الأدبيّة الشهيرة: “طوق الحمامة”، وروايات “غادة السمّان”، ودواوين “نزار قبّاني”، والتي التقطت أحدها، ربّما كان “الرسم بالكلمات”، ورحت معه، ولم يثنيني الكعب العالي عن الرواح. كانت حوالي السادسة مساء، وبعد أقلّ من ساعة، كنت قد انتهيت منه، أعدته وراء الحبل على العارضة الخشبيّة، ومددت يدي إلى ديوان آخر، لكنّ صاحب الكشك الذي كان قد ضاق بوقوفي، بادرني: نريد أن نغلق…
انتخابات الهيئة الإداريّة لرابطة الكتّاب الأردنيّين، حدثٌ يذكّرك كلّ سنتين بأنّه مازال لك صوت، يمكنه أن يكون مؤثّراً في فعل جماعيّ، بعيداً عن الفرديّة التي يعيشها الكاتب فينفعل من خلالها مع ظرفنا التاريخيّ الرديء، ولعلّ استعادة الصوت بتفعيله مكسب شخصيّ أكثر من كونه مكسباً للآخرين، فهو يحيل على فكرة الحوار الحقيقيّ، الذي تكون به الذات، فالحوار ليس تبادل كلام، بل تفاعل بين وعيين.
يستغرق هذا الحدث يوماً كاملاً، يبدأ باللّقاءات مع الأصدقاء الذين قد لا تجمعك بهم مناسبة أخرى لوقت طويل: بعض الأحاديث والحكايات، وتبادل الأعمال الأدبيّة التي صدرت مؤخّراً، ثمّ قراءة التقارير، واستقالة الهيئة السابقة، لتبدأ العمليّة الانتخابيّة بتصويت المرضى وكبار السن وأبناء المحافظات، ثمّ تتوالى الأحرف، وحرف الشين بعيد نوعاً ما…
يضع الشاعر حسن البوريني في الوقت المناسب بين يديّ، ديوانه الصادر في 2013، عن دار الجنان في الأردن، ويحمل عنوان “عتاب الساقيات”، الذي يحيل على ذاكرتنا الخمريّة، ونموذجها الدامغ عند “عمرو بن كلثوم”، فهكذا هم دارسو الأدب، عقولهم مرتّبة وفاقاً لكلمات مفتاحيّة، لذا تهيّأت لعمليّة تلقٍ موجّهة، لكنّني لم أجد بدايةً كأساً ولا خمراً، فشدّني كسر أفق التوقّعات بحسب نظريّة التلقّي.
تتعدّد دلالة (الساقيات) في النصّ الذي حمل عنوان المجموعة، إنّه نصّ سيمشي معك طويلاً، لأنّه يجمع الإشارات الثقافيّة التاريخيّة التي نمت في الوجدان: المقدس الذي يحفل بالمزن من الغيم، ذلك الذي يعد ولا يُخلف وعده، والشعرالجاهليّ الذي تمتلئ على إيقاعه الخوابي، وشعر الحداثة في مطر “السيّاب”، وورحلات “أوديسيوس”، ولعلّ الأبلغ تأثيراً هو انفتاح تلك الدلالات على المستقبل، حين يصاحب ذلك المستقبل يومنا الذي نعيش فيه وطأة قوارب الموت، وغرق المهاجرين من أرضنا ودمائنا، ونحمل بين عيوننا المؤرّقة صورة “إيلان” الطفل السوريّ الذي أدمى الشواطئ. ها هو الشعر، إنّه الصور، والصور هي نحن:
“قد أقلعت مزنُ الخيالِ
ببعض شعرٍ
دون أن تدري القصائدُ أيَّ موجٍ
قلّ قارب من سَعوا
لمجاهل الحلم الحزين..
…
هذا عتاب الساقيات وقد أتانا
من بلاد الجرحِ
مسكوناً بأوجاع المسافةِ
عقَّ ذاك الزّقَّ من زمن الصبابةِ…”
وهكذا، انتخبنا، وقرأنا، وكتبنا، وفي اليوم التالي حضرنا جلسة حواريّة لـ (مفكرين) عرب، عن “العنف والدين”، حيث كلّ شيء حولي كان عنيفاً، والمنصّة ذاتها كانت في غاية العنف!
أعتقد أنّه علينا أن نكفّ عن تقويم الشعر ما دمنا لا نبادر إلى قراءته، وأنّنا لو منحنا اهتمامنا للشعريّة بالمفهوم الأرسطيّ، الذي يحيل إلى الإبداع في الصناعات كلّها، بما فيها صناعة الفكر، لحظينا بحياة أكثر أمناً وسلاماً!
_________
*المصدر: موقع عمّان.نت