بلادي وإن جارت


*غصون رحال


خاص ( ثقافات )
ينكفئ طفل على وجهه على رمل ساحل مجهول ، يهوي قارب بكامل حمولته ليستقر في قاع المتوسط دون رأفة بامرأة او رضيع ، تتحوّل جديلة طفلة غريقة إلى مشنقة ، يعزّ الهواء على بشر مثلنا فيختنقون فرادى أو مجتمعين في جوف الحافلات على الحدود الفاصلة ما بين مدن التحضر والحضارة، تتجمّد أوصال الفّارين من جحيم البراميل المتفجرة داخل ثلاجات نقل اللحوم العابرة للحدود، فيستحيل هذا الفضاء الهلاميّ الممتد حتى حدود الله إلى خزّان خرافيّ بلا جدران، مسقطا معه ذاك السؤال الافتراضي الخبيث : لماذا لم يطرقوا جدار الخزان؟!.
ذات زمن غابر ، كانت أرض الله لله ، كان البشر جمعيهم على اختلاف ألوانهم ومللهم شركاء على الشيوع فيما تيسّر من ماء وكلأ ونار. كان على هذه الارض ما يستحق الحياة، وكانت الأنفس مطمئنة قانعة.
على انه ، وذات زمن أغبر ، ابتدع العقل البشري فكرة ” الوطن” ، فقدّت الأرض إلى رقاع، ورسمت الحدود والخرائط ، وانكفأت البشريّة كل ملّة تحرس رقعتها ، وصار كلٌّ يعضّ باسنانه على تلك الخطوط التي تحيط برقعة الارض المخصصة له وينشب أظافره في لحم من تسوّل له نفسه الدوس على طرفها دون تأشيرة أو جواز سفر.
كان ولاء الانسان للرب حين كان كائنا تسيّره الفطرة ، فصار ولاءه لرقعة من الجغرافيا حين أصبح أسيرا للسّاسة. الوطن ، أكذوبة جرى ترويجها وتكريسها شعرا ونثرا وغناءا إلى أن انكشف زيفها وانكفأت على وجهها هي الأخرى هذه السنة تحديدا !
هذه السنة ، بلغ عدد من كفر بحتمية الولاء لرقاع الأرض حوالي 300 ألف مهاجر ولاجئ، شطبوا بيت الشعر ” بلادي وإن جارت عليّ عزيزة ” من ديوان التاريخ ، وركبوا البحر حاملين على عاتقهم مغبة الموت غرقا، ومجازفين بالتحول إلى طعام لأسماك البحر ، أو على أفضل الأحوال ، الانكفاء على الوجه أمام ساحل من سواحل المتوسط هربا من واقع لم يعد بالامكان احتماله ، وطمعا بمصير غير آيل للسقوط أو الغرق!.
هذه بلاد تشرع أحضانها لدود الأرض وتضيق بهم ! هذه بلاد ترفع السلاح في وجه المستضعفين واللاجئين بينما العدو الحقيقي يرتع فوق روابيها ! 
فالبحر ، البحر يا قوم ؛ الغيب بما يحمله من مجهول أهون من واقع يخردقه الرصاص، والسموم ، والأسر ، والقتل ، والدم ، والشلح ، والتشبيح ، والترويع والدمار و الضياع …
في الغد ، ستتلقفهم الدول التي كانت وراء استباحتهم وسفك دمائهم ، ستتشاركهم الحكومات على الشيوع ليضيع دمهم بين القبائل ، ستمنحهم صفة “لاجئ” ووثيقة لجوء ، ستدمغ جباههم بختمها الأحمر ، وتحشرهم في كرافانات بلا جدران يطرقونها.
ستستحضر شعوب تلك الدول إرث ” Kant ” و سلسلة مقالاته حول “السلام الدائم” ، وتعيد إلى الاذهان موال ” المواطن الكوني ” ، ستتباهى أنها كانت السباقة إلى منح الغرباء الحق في حسن الضيافة وضرورة ألا تتم معاملة الغريب كما لو أنه عدو إن حط رحاله على أرض الآخرين .
سيفتتح المزاد على مصائرهم ، وتتباهى البلدان أيّها تحوى العدد االاكبر منهم ونحن نعلم أين سيقطنون وكيف سيحشرون كالقطيع في حظائر تفتقر إلى أبسط مستلزمات الحياة الكريمة الآمنة .

شاهد أيضاً

ليست مرثيّة لإميل حبيبي

(ثقافات) ليست مرثيّة لإميل حبيبي: الإنسان في جوهره مرزوق الحلبي عندما اتخذ الحزب الشيوعي قرارًا …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *