تشارلز سيميك: على الكتّاب البحث عمَّا لا يراه الآخرون


جو فاسلر


عندما طلبت من الشاعر الصربي المولد اختيار مقطع مفضل لهذه السلسلة، اختار مناقشة A Sight in Camp in Daybreak Gray and Dim (مشهد في المعسكر مع الفجر رمادي وقاتم) لوالت ويتمان. يصف راوي القصيدة مجموعة من الجثث المغطاة خارج مستشفى خلال الحرب الأهلية، ومن ثم يرفع الأغطية ليتأمل وجه كل جندي ميت. تمحورت مناقشتنا حول طرق التأمل المختلفة: حقائق مزعجة تفرض علينا القصائد مواجهتها وقصائد أولية (فضلاً عن رسالة رفض) شجعت سيميك على التوصل إلى طرق جديدة لرؤية المسائل المألوفة من منظار مختلف. صدر لسيميك كتابان هذه السنة: الأول بعنوان The Life of Images، وهو نوع من سرد غير خيالي يتناول مصادر اهتمام المؤلف وشغفه: نقانق مقلية، تسجيلات قديمة، مدينة نيويورك، شخصيات ثقافية من إميلي ديكنسون إلى باستر كيتون. أما موهبته في بث الحماسة في الحياة اليومية، فتتجلى في مجموعته الشعرية الجديدة The Lunatic. ففي القصيدة الرئيسة مثلاً، تشير رقاقات ثلج واحدة إلى طبيعة الجنون المتملكة السيزيفية. وتثير أشياء وأماكن مألوفة، مثل دروب أيام الطفولة، الغرف الفارغة، ومتاجر الطرق الرئيسة، مشاعر الرهبة والإعجاب. حاز هذا الشاعر، الذي كُرّم سابقاً في الولايات المتحدة، جائزة بولتزر لمجموعته عام 1989 The World Doesn’t End. كذلك يدّرس الكتابة في جامعة نيوهامشير وتحدث إلي عبر الهاتف.

تشارلز سيميك: على غرار أي إنسان في مثل سني، لطالما شكلت الحرب جزءاً من حياتي. ولدت عام 1938. وكنت في الثالثة من عمري حين بدأت القنابل تتساقط على بلدتي في بلغراد. عندما حُررت المدينة في أكتوبر 1944، كنت في السادسة من عمري وأعيش في وسط المدينة. بما أن أهلنا كانوا دائمي الانشغال، ولا أعلم ما كان يشغلهم، اعتدنا نحن الأولاد اللعب في الشارع. ورأينا الكثير من الأشياء، أشياء ما كان يُفترض أن يراها الأولاد، بما في ذلك الجثث، كما تعرف.
ثمة قصة يرددها أفراد عائلتي وأتذكرها بشكل مبهم. عدت ذات يوم إلى المنزل وأنا أعتمر قبعة جندي. حدث ذلك بعدما حرر الروس المدينة. كان منزلنا يقع قرب كنيسة. فقصدت باحة الكنيسة الخلفية وكان فيها بعض جثث الجنود الألمان. كانت القبعة قد سقطت قرب رأسه. أتذكر أنني تعمدت عدم النظر مباشرة إلى وجهه لأنني كنت خائفاً جداً. لكنني أخذت القبعة. لا تردد عائلتي هذه القصة بسبب ما فعلته وأخذي قبعة ألماني ميت. شهدت الحرب العالمية الثانية فظائع مخيفة. يروون هذه القصة لأنني التقطت القمل نتيجة اعتماري هذه القبعة واضطروا إلى حلق شعر رأسي.
لا أريد الذهاب إلى لبنان

عندما قدمت إلى الولايات المتحدة، كنت في السادسة عشرة من عمري. وما إن وصلت حتى بدأ الناس يقولون لي: «تشارلي، ستذهب إلى كوريا». لكنني لم أذهب بالتأكيد. كنت صغير السن، لكن هذا الخوف راودني دوماً. أذكر أنني عملت في صحيفة Chicago Sun-Times ، عندما كنت شاباً: وظيفة بسيطة. قصدت ذات صباح ما كانوا يدعونه غرفة التنسيق حيث كانوا يجمعون الصحيفة صباح كل سبت. كنت في مزاج جيد لأنني تقاضيت راتبي في الليلة السابقة. صاح أحد العمال، وخاطبني: {سيميك، ستذهب إلى لبنان}. كانوا يرسلون جنود البحرية الأميركية إلى هذا البلد آنذاك. فخفت كثيراً وأفسد ذلك يومي. فكرت: {لا أريد الذهاب إلى لبنان}. وهذه كانت حالتي طوال حياتي. انخرط في الجيش قبل حرب فيتنام، ومن ثم أُرسل أخي إلى فيتنام. وحلت بعد ذلك حرب الخليج، وظن ابني أنه قد يشارك فيها…
كما تعلم، ما عدنا نرى المجازر في حروبنا. ولكن خلال حرب فيتنام، إن كنت تسهر حتى وقت متأخر من الليل، كما اعتدت أن أفعل، كانوا يعرضون على شاشة التلفزيون نحو الحادية عشرة أو منتصف الليل وثائقياً عن الحرب. كانت الصور معبرة جداً ويستحيل نسيانها: فيتناميون قتلى، إطلاق نار على قتلى فيتناميين من طائرة مروحية، أو جنود قتلى أو جرحى ممددون على الأرض. كانت فيتنام الحرب الأخيرة التي رأينا فيها صوراً مماثلة، وتعلموا الدرس. وهذا ما يثير اهتمامي بهذه القصيدة.
لا أعاود قراءتها كثيراً. إلا أنني أعود إلى A Sight in Camp in Daybreak Gray and Dim. حاولت أن أقرأها لطلابي خلال فصل الخريف، لكني اكتشفت أنها تؤثر فيَّ بعمق كبير، مع أنني أعرف هذه القصيدة جيداً وأدرك ما تحمله.
حرب وتعاطف
شكلت الحرب الأهلية نقطة محورية في شعر ويتمان. يثير أحياناً جنونك قبل ذلك بأبيات مثل «يا لهذا البلد العظيم! ها نحن نسير نحو هذا المستقبل المجيد»، وبكل هذا التفاؤل «الإميرسوني». راودته هذه الرؤية البشرية الجماعية في هذا البلد الذي يؤمن به حقاً. توقع أموراً جيدة كثيرة من هذا الشعب المميز والمليء بالحماسة. ومن ثم حلت الحرب.
في عام 1826، أصيب أخوه واضطر ويتمان إلى المجيء للبحث عنه. وهكذا تحول إلى مضمد جراح، كما اعتادوا تسميته، في المستشفيات حول واشنطن. نتيجة لذلك، انقلب ويتمان رأساً على عقب. على سبيل المثال، في قصيدة لينكولن المميزة When Lilacs Last in Dooryard Bloom’d، لا تلمس فيها أي مشاعر وطنية، بل مأساة فحسب.
غطاء كثيف
تبدأ قصيدة A Sight in Camp مع استيقاظ الراوي، خروجه من خيمته، ورؤيته مجموعة من الجثث المغطاة:
مشهد في المعسكر مع الفجر رمادي وقاتم،
مع خروجي باكراً من الخيمة بعدما عجزت عن النوم، فيما اجتزت ببطء في الهواء العليل المنعش الدرج قرب مستشفى الخيمة، ثلاثة أشكال رأيتها ممدة على حمالة، أُخرجت وتُركت بدون عناية، فوق كل منها امتد الغطاء، غطاء كثيف صوفي بني، غطاء رمادي ثقيل، متعرج، يغطيها بالكامل.
هذا واقع الحال. ما من كلمات إضافية. اختصر كل شيء بالتعبير عن المفيد الأساسي. نفهم ما يمر به المؤلف لأنه يتجلى حيوياً، قوياً، ومقلقاً. {في الهواء العليل المنعش}: ينقلنا مباشرة إلى محور القصيدة. نشعر بالأرق الذي يعيشه الراوي في تلك اللحظات، مع أنه سبق أن رأى مشاهد مماثلة. ثم ينتقل إلى وصف أغطية الجيش التي تلف الجثث تلك: هذا تفصيل بالغ الاهمية. لا شيء يظهر من تحتها: لا قدم أو يداً، لا شيء. تلف الأغطية الجثث بالكامل. ولا نود بالتأكيد رفع تلك الأغطية.
لكن ويتمان يرفعها. تتضمن هذه القصيدة نوعاً من التنسيق المتقن. يرفعها ويتمان الواحد تلو الآخرى  ليختلس نظرة.
بفضول توقفت وبصمت وقفت، ثم بأصابع خفيفة رفعت عن وجه الأول الأقرب الغطاء، مَن أنت أيها المسن المتجهم والعابس، بشعرك الأشيب، ولحمك الغائر حول عينيك؟
مَن أنت يا رفيقي العزيز؟
ثم من الثاني اقتربت – ومَن أنت يا صغيري العزيز؟
مَن أنت أيها الصبي الجميل بخديه العارمين المتفتحين؟
أعرب ويتمان عن التعاطف. أدرك أن هذه كانت أرواحاً حية مميزة، ثلاثة من بين أمثلة كثيرة أخرى. يشكل التعاطف محوراً مهماً في أعمال ويتمان منذ البداية. وعندما أقرأ هذه القصيدة، أشفق على ذلك الرجل العجوز، وبالتأكيد الصبي الشاب الذي يسير إلى الحرب ليكون بطلاً ويُقتل. وهكذا تتحول القصيدة برمتها إلى موجة متدفقة بالعواطف. تنجح هذه القصيدة في التشويق وتأجيج العواطف، فيما يرفع الراوي الأغطية عن الجثث الواحد تلو الآخر ويتأمل الفظائع على وجوهها.
ومن ثم نبلغ الذروة الصادمة الأخيرة:
ومن الثالث – وجه ليس فتياً ولا مسناً، هادئ جداً، جميل جمال العاج الأبيض المصفر،
أيها الشاب، أظن أنني أعرفك – أظن أن هذا الوجه وجه المسيح نفسه، ميت ومبجل وأخو الكل، وهنا يسجّى مجدداً.
لا نكفّ عن قتل المسيح أو إخوتنا في الإنسانية. هذه رؤية عن الجنون الجماعي. لا شك في أن كثيرين في عصر ويتمان سمعوا هذه القصيدة واعتبروها كفراً: فكرة وضع المسيح هناك. ولكن هنا تكمن قوة القصيدة. لا أتأثر بسرعة عند قراءة الشعر، سواء كان من كتابتي أو شعر أي مؤلف آخر. لكن عيني ترقرقت بالدمع. فنظر إلي طلابي باستغراب، فيما حاولت أن أوضح لهم ما كنت أشعر به.
حقيقة كبرى
ثمة الكثير من الأغطية الأخرى التي لا نود رفعها والنظر إلى ما تخبئه تحتها، إذا جاز التعبير. تخفي هذه حقيقة كبرى (وهذه كلمة كبيرة) نكره أن نراها. قد يكون وجهاً في الشارع، شخصاً ينظر إلينا بألم، شخصاً يتألم. فنشيح بنظرنا عنه. لا يمكننا النظر إلى كل الأمور. لكنني أحب القصائد التي تُرغم القارئ على ذلك من حين إلى آخر: ترغمه على النظر.
برع ويتمان في ذلك. فبما أنه عاش في المدينة وعمل كصحافي، أجاد ملاحظة التفاصيل. كان دائم التيقظ، مدركاً تلك المآسي الصغيرة التي يعجز الآخرون عن رؤيتها. على سبيل المثال، له قصيدة جميلة عن أولاد يراقبون مَن يسن أنصال السكاكين في الشارع. فيصف أعينهم وهي تكبر وتكبر فيما يراقبون الشرار يتطاير.
ثمة أغطية أخرى لا نود رفعها والنظر إلى ما تخبئه تحتها. هذه هي الحقيقة التي نكره رؤيتها.
قصائد مثالية
طوال السنوات الـ 42 الماضية، عشت في نيوهامشير في قرية صغيرة جداً محاطة بالغابات والجبال. إلا أن ما ندعوه جبالاً، ما هو في الواقع إلا تلال. عندما أقصد المدينة، ألاحظ كل التفاصيل. ولكن عندما أتوجه إلى الريف، لا أعود ألاحظ أياً منها. مع أنني أملك الكثير من الوقت في القرية، أنظر إلا أنني أشعر بأنني أعمى. عندما كنت صغيراً، لم أتعلم الأنواع المختلفة من الأشجار والعصافير وغيرهما. لذلك تُعتبر قدرتي على التمييز محدودة في الريف. أقوم عادةً بنزهات طويلة سيراً على الأقدام على دروب وممرات ترابية، إلا أنني أغفل عن الكثير مما يدور من حولي.
أعتقد أن لذلك علاقة بواقع أنني ترعرعت في المدينة. نتيجة لذلك، ترتبط مخيلتي بالمدينة. إذا رأيت شخصاً يسير في الشارع، أتأمل شكله وأبدأ بالتساؤل عما يقوم به أو أي نوع من الأشخاص هو. لا أكف عن التفكير فيه. في المدينة، ألاحظ شتى التفاصيل. ويروقني ألا أفعل أي أمر آخر غير ذلك. عندما كتبت قصائدي الأولى {السكين}، {الشوكة}، و}الملعقة} عام 1964، كنت أعيش في شقة صغيرة رطبة في الشارع 13 وساحة الجامعة في مانهاتن. كنا في الصيف، وكنت قد انتهيت من تناول الطعام. رحت أتأمل الطاولة والسكين والشوكة والملعقة الموضوعة عليها. فلاحظت كم هذه الثلاث مثيرة للاهتمام. فسرقت فكرة من ملعقة وسخة وأخرى من مكان آخر. أتذكر أنني فكرت: {سيميك، لنرَ إن كنت تستطيع كتابة قصيدة عن هذه}. فما من أحد كتب قصيدة عن الشوكة أو الملعقة أو السكين ، مع أننا نستعملها كل يوم. وهكذا ألفتها وارسلتها إلى مجلة The Quarterly Review of Literature. فرد علي المحرر، رافضاً هذه القصائد. وذكر: {عزيزي السيد سيميك… من الواضح أنك رجل ذكي على ما يبدو}. حيرتني كلماته هذه، وفكرت: «ما أدراه هو؟». أضاف: «لمَ تؤلف قصائد حول أمور مماثلة؟ لمَ تكتب عن أشياء تافهة مثل أدوات المائدة؟». دخلت المكتبة وأنا أحمل هذه الرسالة. كانت مشاعري مختلطة بين الانزعاج (فكرت: «يا لك من غبي! ربما عليك أن تكتب عن الغروب في شهر يونيو؟») والانتصار. فكرت: «هذا ما سأقوم به من اليوم فصاعداً. هذا ما أبرع به». شعرت أنني أسير على الدرب الصحيح، ما حمل إلي شعوراً بالمتعة. أعتبر القصيدة المثالية تلك التي يستطيع الشخص قراءتها وفهم معناها الأساسي عند الانتهاء من قراءتها للمرة الأولى. أظن أن سهولة الفهم ميزة بالغة الأهمية. فهذا يمنح القارئ شيئاً ليبدأ بالتفكير فيه، شيئاً يبدو بسيطاً وواضحاً إنما يحمل قليلاً من الغرابة، شيئاً يحمل ما يميزه ويجعله خارجاً عن المألوف. وهكذا لا يتردد القارئ في العودة مرات عدة إلى القصيدة أو التفكير فيها. وهنا يكمن الطموح. ففي كل مرة نقرأ فيها القصيدة، نصل إلى مستوى جديد من فهمها. وهكذا تتحول تلك القصيدة المذهلة المؤلقة من 10 إلى 15 سطراً إلى ما يشبه قصيدة ويتمان هذه التي يرغب القارئ في معاودة قراءتها المرة تلو الأخرى. هذا ما أحلم به: قارئ يقف في متجر لبيع الكتب ويتأمل رفوف كتب الشعر. يسحب كتاباً ويقرأ بضع قصائد، ثم يعيد الكتاب إلى مكانه. بعد يومين، يكون هذا القارئ جالساً في سريره في الرابعة صباحاً وهو يفكر: «أريد قراءة هذه القصيدة مجدداً! أين تلك القصيدة؟ من الضروري أن أبتاع هذا الكتاب».
الجريدة الكويتية

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *