وليد سليمان: نحتاج إلى مشروع ترجمة نهضوي



حاوره: الحبيب الأسود

( ثقافات )

يبرز وليد سليمان في الساحة الثقافية التونسية كأحد أبرز الهادئين في الحركة والكلام، والصاخبين بالإنتاج والأحلام وتعدد الاهتمامات، فهو قاص ومترجم من اللغات الفرنسية والانجليزية والاسبانية، كما أنه ناشر وإذاعي ومشرف على ناد أدبي إلى جانب اهتماماه بأدب أوروبا الشرقية التي يتجول بين دولها بشغف الباحث عن الكنز المفقود. عن تجربته ومواقفه ورؤاه يتحدث وليد سليمان في الحوار التالي:
• بدأت شاعرا ثم اخترت القصة القصيرة ثم انحزت إلى الترجمة، كما خضت تجربة النشر إضافة إلى نشاط مهم في مجال النقد السينمائي. كيف تقيّم هذه التحولات؟
كانت لدي محاولات شعرية في بداياتي الأدبية، ولكنني سرعان ما اقتنعت بأن الشعر ليس هو طريقي. وترافقت بداياتي في كتابة القصة القصيرة مع قراءات مكثفة في جميع الأجناس الأدبية، اقتنعت على إثرها بأن فن القص هو من أجمل وأصعب الفنون. وصعوبة هذا الجنس الأدبي توفّر لي ككاتب متعة التحدّي المزدوج. فمن ناحية، على القاص أن يتحرك ضمن قوالب وتقاليد أدبية يفرضها عليه هذا الجنس الأدبي، ومن ناحية أخرى عليه أن يترك بصمته الخاصة ويفرض أسلوبه الذي يميزه عن غيره من الكتاب، وإلا فانه يكون مجرّد كاتب تقارير لا تستحق الاهتمام. وكان دخولي عالم النشر على إثر تجارب سيئة مع ناشرين في أكثر من بلد عربي. وأعتقد أن أغلب من نسميهم ناشرين في العالم العربي هم مجرد “متعهدي طباعة”. ومن ناحيتي أؤمن بأن غلاف الكتاب وحجمه ونوع الورق وغيرها من العناصر تدخل ضمن النسيج الإبداعي للنص. وهكذا دخلت عالم النشر تحدوني رغبة في تقديم الإضافة وضخّ جرعة من المحبة للكتب التي أنشرها في قطاع طغت عليه الرتابة وضيق الأفق. وبالنسبة للسينما فإن حبي لهذا الفن الساحر لا تقل عن حبّي للأدب. 
• نلاحظ في أجواء قصصك القصيرة ونصوصك السردية عالما إنسانيا ينشد الانطلاق، كما تبرز فيها ملامح من سيرة ذاتية. 
الإنساني هو القاسم المشترك بين كل الإبداعات الأدبية. قد يختلف الكتّاب في المقاربة أو في الأسلوب أو في طريقة التناول، ولكن الاحتفاء بما هو إنساني والصدق الفني يضمنان كونية النص ووصوله إلى أكبر عدد ممكن من القراء. لذلك أعتقد أن نصوص نجيب محفوظ والطيب صالح وتشيخوف وغي دي موباسان وإرنست همنغواي وغيرهم ستظل خالدة وستقرأ في كل اللغات بنفس الشغف والاهتمام. أما عن عنصر السيرة الذاتية فهو يختلف باختلاف الكتّاب. إن الأمر أشبه بالوصفة، ففي حين يعتمد بعض الكتّاب في نصوصهم كليّا على السيرة الذاتية، نجد أن البعض الآخر يفضّل الاعتماد على المخيلة. من ناحيتي، أحاول أن أخلق في قصصي توازنا بين المعيش والمتخيّل، فالذاكرة والخيال متكاملان. وأعتقد أن موهبة الكاتب تكمن في قدرته على مزج هذين العنصرين بمهارة.
• أنت كاتب ومترجم، كيف ترى فعل الترجمة في علاقته بالكتابة؟ 
لقد اهتديت، في سن مبكرة، إلى أن أفضل طريقة لقراءة نص مّا هي ترجمته. أي أننا عندما نترجم نصا ما نتشبّع به على أفضل وجه وندخل في نسيجه الإبداعي. هكذا قرأت “اشراقات” أرتور رامبو على طريقتي بعد أن افتتنت بها. ووجدتني أترجم هذه النصوص الغامضة والجميلة بلذة كبيرة وأنا في سن المراهقة. وكانت تلك التجربة التي عشتها في بداياتي الأدبية فخّا جميلا لم أستطع التخلص منه إلى حد الآن. وفي اعتقادي أن الترجمة تثري تجربة الكاتب وتفتح أفقه على عوالم شاسعة. ولذلك أنا حريص على أن أراوح بين هذين النشاطين دون أن أسمح لأحدهما أن يطغى على الآخر. 
• هل ترى أن العرب يبرمجون الترجمة، أم أن الترجمة هي مجرد “نزوة” أو “رغبة في التعرف على الآخر”؟
سؤالك مهم جدا ومشروع في آن. هل لدينا، كعرب، مشروع في مجال الترجمة؟ في الحقيقة أشكّ في ذلك، على الأقل إلى حد الآن. والمؤسف في الأمر هو أن كل الدول العربية تشترك في لغة واحدة، أي أنه من المفروض أن يساهم هذا العامل في إصدار أكبر عدد ممكن من الترجمات. فبلغة الاقتصاد، هناك سوق واسعة، وهو أمر يمكن أن يعوّض النقص المتأتّي من تدنّي نسبة القراء في الدول العربية. أعتقد أن الفوضى التي تعم مجال الترجمة مردّها غياب التنسيق بين مختلف المؤسسات والهيئات المهتمة بالترجمة. لكن في ذات الوقت، لاحظت في المدة الأخيرة بوادر لنهضة شاملة في مجال الترجمة، وخاصة بفضل المشاريع الضخمة التي تم إحداثها في دولة الإمارات العربية، مثل مشروع “كلمة”، والتي من الواضح أن خلفها إرادة سياسية حقيقية وتفكير عميق في الدور التنويري المهم الذي تلعبه الترجمة. بالإضافة طبعا إلى الدور الكبير الذي تلعبه مصر في دفع حركة الترجمة وإثراء المكتبة العربية. وكل هذه المشاريع بدأت تخلق لحسن الحظ تنافسا من شأنه أن يثري الحركة الثقافية في العالم. 
• معروف عنك حبّك للسفر وحدّثتني مرّة عن رحلاتك المتكررة إلى أوروبا الشرقية، كيف ترى الواقع الثقافي هناك، أو كيف تبدى لك؟
أسافر بانتظام إلى أوكرانيا باعتبار أن زوجتي أوكرانية، وأحاول في كل مرّة أن أغتنم فرصة وجودي هناك لزيارة الدول المجاورة والتي تعرف بدول الاتحاد السوفيتي سابقا. وكانت روسيا من الدول التي زرتها وتركت لديّ انطباعا قويا حول علاقة الناس بالثقافة عموما والأدب خصوصا. لقد شدّ انتباهي مثلا أن أهم الشوارع والساحات تحمل أسماء مشاهير الكتاب الروس. وتكاد تجد تماثيل هؤلاء العظماء في كل مكان. ولكن أكثر ما أثّر فيّ هو أن عددا كبيرا من المواطنين لا يكتفون بزيارة هذه المعالم وإنما يُحضرون معهم باقات الورود ويتركونها أمام التماثيل. وهذا يدلّ بالطبع على مدى تقديس الناس للأدباء. أما الكتّاب المعاصرون فعليك أن تحجز مكانك قبل أيام عديدة إذا أردت حضور لقاء ينظّم لهم، ومن ذلك مثلا أن شوارع موسكو قد امتلأت باللافتات والعلامات الإشهارية التي تعلن عن تنظيم لقاء مع الكاتب الروسي الكبير فيكتور بيليفين بمناسبة صدور روايته الجديدة، ورغم السعر المرتفع لتذاكر الدخول إلا أنها سرعان ما نفدت قبل أيام.
• رويت لنا طغيان صورة الشاعر القدير ألكسندر بوشكين. كيف رأيت الصورة، صورة الشاعر بالمقارنة مع صورته في العالم العربي؟
بالنسبة إلى الروس، يعتبر بوشكين أكثر من شاعر، بل لن أبالغ إذا قلت إنهم يعتبرونه بمثابة النبي. إن هذه الشعوب لها قدرة عجيبة على استحضار أرواح مبدعيها العظام. وعندما تتجوّل في أروقة أحد المتاحف المخصصة لبوشكين- وهي بالمناسبة متاحف كثيرة – تشعر بالرهبة وتحس بحضوره الطاغي. إن الإنسان يشعر بالضآلة أمام تماثيل الكتّاب الروس التي يبلغ ارتفاعها أحيانا عشرات الأمتار والمحزن هو عندما تحاول المقارنة مع وضعية الثقافة في عالمنا العربي. عندها يدرك الإنسان أنه مازال أمامنا الكثير مما يتعيّن فعله وان العقليات لدينا تحتاج إلى تغيير جذري. 
• ثمة من يرى أن الأدب العربي غير مقروء عند العرب، فهل هذا يعتبر في نظرك من باب التجاهل وعقدة المعاشرة أو حجاب المعاصرة؟
قبل أن نلوم القرّاء العرب، علينا أن نلوم الكتّاب العرب أنفسهم. فهؤلاء المشتغلون بالأدب لا يقرؤون بالقدر الكافي، بل وأحيانا تجد كتّابا عربا لا يقرؤون إلا الجرائد. إذن فالمسألة خطيرة، وعلينا أن نبدأ من البداية وننقذ ما يمكن إنقاذه من الأجيال الجديدة التي تمثل المستقبل وإلا فسنجد أنفسنا في يوم من الأيام في مزبلة التاريخ. أما عن حقيقة أن الأدب العربي غير مقروء بالقدر الكافي فهذا يحتمل وجهتي نظر: أوّلها أن نسبة الكتب الجيدة التي تكتب باللغة العربية ضئيلة جدا ويضاف إلى ذلك تضخّم ذوات الكتّاب وعدم قدرتهم على تواصل حقيقي مع القارئ، وثانيا لا يقتصر قلة إقبال القراء العرب على الكتاب المعاصرين بل إن ذلك ينطبق على العلوم والآداب والعلوم الإنسانية وكل أنواع الكتب. فالأزمة شاملة ولم يعد في الوقت متّسع لأنصاف الحلول.
• صدرت لك مؤخرا رواية “المرجومة” وهو كتاب مثير للجدل للكاتب الإيراني فريدون صاحبجام قٌمتَ بترجمته إلى العربية ولاقى نجاحا كبيرا، فماهو سرّ اختيارك لهذا العمل؟ وماهو سرّ نجاحه حسب رأيك؟
ما لا يعرفه القرّاء هو أنني قد انتهيت من ترجمة هذه الرواية منذ حوالي عشرين عاما، أي قبل أن تصبح من الكتب الأكثر مبيعا في العالم ويتم تحويلها إلى شريط سينمائي. والحقيقة أنه كان من المفروض أن أترجم هذا الكتاب بالاشتراك مع صديق لي كان له الفضل في تعريفي به، غير أنني أنهيت العمل بمفردي في نهاية الأمر بعد أن اعتذر صديقي. وقد تأخر صدور الكتاب لأنني لم أتمكن من شراء حقوقه من دار النشر الفرنسية التي تملكها، وأنا لا أسمح لنفسي بنشر عمل دون ترخيص. وهكذا لم تصدر الترجمة العربية إلا عندما وجدت دار نشر أخذت على عاتقها إصدار العمل والتكفّل بمسألة الحقوق. أما سرّ نجاح هذه الرواية حسب رأيي فهو الموضوع الذي تناولته. فأن يقوم كاتب محكوم عليه بالإعدام في بلده بالتسلل إلى هذا البلد متنكّرا ومخاطرا بحياته لمتابعة وقائع رجم امرأة اتهمت زورا بخيانة زوجها فهو أمر لا يحدث كلّ يوم. وهذه التجربة الرهيبة التي أقدم عليها الكاتب الإيراني فريدون صاحبجام أعطتنا عملا أدبيا فريدا ومتميّزا وسمحت بالتعريف بقضية ثريا مانوتشهري التي تعرّضت للرجم في جميع أنحاء العالم. 
• من بين الأعمال التي ترجمتها من الاسبانية إلى العربية وبقيت راسخة في الأذهان كتاب “إيروس في الرواية” للروائي البيروفي الشهير ماريو بارغاس يوسا، فإلى أي مدى يُـلقي هذا الكتاب المزيد من الضوء على يوسا باعتباره ناقدا للرواية؟ 
يجمع هذا الكتاب دراسات كتبها يوسا حول عدد من الروايات المهمة التي كتبت خلال القرن العشرين والتي نذكر من بينها: لوليتا لفلاديمير نابوكوف، والمحراب لوليام فوكنر، ومدار السرطان لهنري ميلر…وقد شدتني هذه النصوص ووجدتني أعيد قراءتها مرارا. ثم قررت ترجمتها كي أتقاسم هذه المتعة التي وجدتها مع قراء العربية. إن يوسا قارئ عميق وذكي، وله أسلوب متميز في النقد. كما أن تجربته الكبيرة في كتابة الرواية تجعله يكتب من منظور الكاتب الملم بأسرار الصنعة الروائية. وهو يقدم إلى القارئ إضاءات غير متوقعة تزعزع أحيانا قناعاته الخانعة. ومن قرأ كتابه المهم “رسائل إلى روائي شاب” أو دراسته الأخيرة حول أعمال فيكتور هوغو والتي اختار لها عنوان “غواية المستحيل” فسيدرك ذلك بسهولة…
في مقدمة الكتاب التي خصنا يوسا بها يقول صاحب رواية “المدينة والكلاب”: “إن هذه المقالات هي، قبل كل شيء، رسالة حبّ واعتراف بالجميل لأولئك الذين عشت، بفضل كتبهم، خلال فتنة القراءة في عالم جميل، متماسك ومفاجئ وكامل تمكّنت بفضله من فهم العالم الذي أعيش فيه بشكل أفضل وإدراك كل ما ينقصه أو يكفيه ليكون قابلا للمقارنة مع تلك العوالم الرائعة التي يخلقها الأدب العظيم. وهذه أيضا من وظائف الروايات الجيدة: أن توقظ فينا الروح النقدية في ما يتعلق بالواقع الذي نعيش فيه وتحثنا على العمل من أجل إصلاحه وتحسينه”. وبدوري أعتبر هذه الترجمة رسالة حب إلى يوسا الذي أمتعنا بعدد من الروايات والكتب التي أعتبرها من أجمل ما كتب في عصرنا.
• يشتكي أغلب الروائيين العالميين المترجمين إلى العربية من هضم لحقوق الملكية الفكرية. ولقد سعيت إلى انجاز عقد وأنت ناشر في بداية الطريق مع كاتب في منتهى الشهرة. هل لك أن تحدثنا عن سبب حرصك على إنجاز الأمور في إطار قانوني؟ 
هناك للأسف ظاهرة سيئة متفشية في العالم العربي وهي ترجمة الكتب الأجنبية دون احترام حقوق الملكية الفكرية. وطبعا هذا يضرّ كثيرا بسمعة المهنة ويؤدي إلى الفوضى. في ما يخصّني، ورغم قلة الإمكانيات، إلا أنني حريص على الوفاء بالتزاماتي تجاه الكتّاب، فقلة الإمكانيات لا يبرر أبدا هضم حقوق الكاتب الأجنبي الذي نترجم أعماله. ولذلك حرصت دائما في كلّ الكتب التي ترجمتها ونشرتها على الاتصال بأصحاب الحقوق وإبرام عقد رسمي. وأذكر من بين الأعمال الأدبية المهمّة التي قدّمتها إلى القارئ العربي، بالإضافة إلى ما ذكرته سابقا، رواية “عزيزي صديق المرحوم” للكاتب الأوكراني الشهير أندري كوكوف الذي باع أكثر من أربعة ملايين نسخة من أعماله وتُرجم إلى 35 لغة وشرّفني أن أكون أول من ترجمه إلى العربية، ورواية “ذاكرة روبن” للكاتب الفرنسي الكبير لويس دي ميراندا الذي لم يترجم هو أيضا إلى العربية من قبل. وآمل أن أجد يوما ما يكفي من إمكانيات لترجمة ونشر عديد الكتب الأجنبية التي أحببتها وستساهم دون شك في إثراء المكتبة العربية. 
– عن دبي الثقافية

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *