«نجم بعيد» رواية بولانيو.. القتلة يتألمون


لينا هويان الحسن


الكاتب التشيلي روبيرتو بولانيو «2003- 1953» في روايته هذه «نجم بعيد» الصادرة حديثا عن دار نينوى – دمشق، والتي قام بترجمتها علاء شنانة، يطوع كل أدوات السرد المتاحة ليروي لنا واقعا متخما بالخداع المرّ والخيانات الكبرى، التي يقترفها شبان مثقفون بحق بعضهم البعض أبان الانقلاب العسكري على حكم الليندي.

إنها السنوات السوداء في تاريخ حكم تشيلي خلال حكم الطغمة العسكرية التي تسبب جنرالاتها باختفاء أكثر من ثلاثين ألف شاب وشابة. قتلوا أو ماتوا تحت التعذيب في المعتقلات، أو تم رميهم من الطائرات العسكرية في المحيط بأذرع وأرجل مقيدة.
روبيرتو بولانيو ينسج السرد على نحو يسمح لنا ان نطرح شتى التخمينات التي لا تقبل بظهور حقيقة لا تقبل الجدل. يعتمد على أداة السارد غير الموثوق به، ليضلل القارئ بغاية التشويق، ولهذا لا عجب أن تبدو الرواية مع تقدم فصولها بملامح بوليسية واضحة.
بداية، كل التخمينات التي كانت تحاك حول بطل الرواية، رويز تاغلي سببها أناقته الملفته ووسامته الملتبسة، من جهة، ومن جهة أخرى سببها الغيرة والحسد من تاغلي الطويل والقوي، الجميل لكن بملامح باردة.
الاختان فيرونيكا، وانجليكا، هما العنصر الانثوي في الرواية والذي نتوقع أن تتطور قصة حب عظيمة بين تاغلي وإحداهما، لكن كل التكهنات التي يمكن أن يفكر بها القارئ بهذا الشأن، ستجهض بقسوة، عندما نصل تلك السطور التي تشرح لنا أن تاغلي هو مجرم مهووس يقتل كل الفتيات اللواتي تعرّف عليهن، وحدها طالبة الطب السمينة بوسداس، تنجو بسبب قباحتها، فرويز تاغلي كان مغرما بالجميلات، يقتلهن ثم يقطع أجسادهن ويقوم بتوزيع الاشلاء بشكل فني ما، ثم يقوم بالتقاط صور فوتوغرافية لجرائمه.
شاعر السماء
في ورشة الشعر كان يصمت بينما الجميع يتكلمون ويثرثرون كثيرا، معظمهم شبان متحمسون، لا يتكلمون عن الشعر فقط، إنما يتحدثون عن الرسم والهندسة المعمارية والتصوير الفوتوغرافي، وعن الثورة والكفاح المسلح، كانوا يرون بالكفاح المسلح أملا واسعا سيسوق لهم حياة جديدة وحقبة جديدة لكن الفكرة كانت بالنسبة لأغلبهم مثل الحلم، مثل المفتاح الذي سيفتح باب الأحلام، وهي الأشياء الوحيدة التي كانت تستحق أن يُعاش من أجلها.
لكن ذلك الحلم سرعان ما أصبح كابوسا شاب تشيلي عقب الانقلاب العسكري على سلفادور الليندي.
البطلات يظهرن بوصفهن كائنات رغبة من الذكور بوصفهن عند «الآخر التقليدي العقلاني والواقعي، فيضا مخرّبا لابد من محاولات لاستبعادهن، حتى لو كان بالجريمة».
بوصفه الهوس، أو العصاب القهري، يستمر افتتان تاغلي بالتحليق. إنه رويز تاغلي الذي يظهر باسم كارلوس وايدر، الطيار العسكري الذي بحلول عام 1974 وجد الفرصة مؤاتية ليركب الموجة، أي سيختبئ وراء النظام الجديد الطليعي الذي بدأ يجتث كل المثقفين من ادباء وشعراء وصحفيين.
كارلوس وايدر، يصبح فجأة شاعر السماء، ويمثل ظاهرة فريدة من نوعها، يكتب القصائد، بدخان طائرة صغيرة، ويستدعى لاقامة عروض في الاحتفالات الرسمية، في سماء الميناء الجوي وبحضور جمهور مكون من ضباط كبار ورجال أعمال مصطحبين عائلاتهم، – البنات اللواتي كن في عمر الزواج كن «يمتن في دبابيب وايدر» بينما المتزوجات كن يمتن من الحزن.
اصدقاؤه القدامى – الذين تعرفوا عليه عبر الصور انه رويز تاغلي ذاته، أدركوا انه كان يوثق بأشعاره تلك لمصائر غامضة أحاقت بزميلات لهم مثل كارمن، وباتريثيا، وانجيليكا وفيرونيكا. لكنهم لم يتوقعوا أنه هو نفسه محدد تلك المصائر وراسمها.
الشوق العاجل، والمتواصل، للتحليق عند وايدر كان توقا للانعتاق من ذاكرة تؤرقه على اليابسة. وحدها زميلته القبيحة طالبة الطب بوسداس أدركت أنه كان يستحضر أسماء نساء ميتات. لكن بوسداس كعادتها، صمتت.
بين سطر وآخر تثور «رومانسيات» التحليق، وتزيح التناول الواقعي لتاريخ كارلوس الواقعي.
واقعية كارلوس الفجة، ظهرت أخيرا من خلال دعوته الصحافة لافتتاح معرض للصور الفوتوغرافية في شقته، المفاجأة كانت غير محتملة للكثيرين، بينما أعلن وايدر للحضور: إنه حانت الساعة لامتصاص شيء من الفن الحديث. قال ذلك وايدر المعروف دائما بهيمنته على من حوله، الواثق، بعينين منفصلتين عن جسده، كما لو أنهما تنظران من كوكب آخر. فتح الباب ليدخل الحضور الى صالة توقع الجميع ان تكون صورا لسماء تشيلي، لكن البكاء كان ردة فعل بعض الحضور، تحديدا اولئك الذين كانو يعرفون الاختين انجليكا وفيرونيكا، معرفة شخصية.
في الصور، النساء كن يبدون كدمى، في بعض الأحيان كدمى عرض مقطعة الأوصال، ممزقة…
بعد تلك الليلة سيختفي المدعو كارلوس وايدر نهائيا، ويعود القارئ ليرضخ لسلطة السارد غير الواثق من قدرته على معرفة المستقبل بأي قدر من اليقين.
أصبحت اخبار كارلوس وايدر مرتبكة، متناقضة، يظهر ويختفي في الموسوعة المتحركة للأدب التشيلي ملتفا بالضباب، هناك تكهنات بقرار طرده من القوى الجوية في محكمة مسائية وسرية والتي حضرها بلباسه العسكري رغم أن معجبيه من دون نقاش كانوا يفضلون تخيّله بعباءة قوقازية سوداء، بعين واحدة ويدخن في غليون طويل من ناب الفيل. العقول الأكثر جنونا من أبناء جيله رأوه يتسكع في سانتياغو، يمارس مهنا متباينة، ويشارك في شركات فنية غريبة. يغير اسمه.
لا يمكننا ابدا ان نصل الى تسوية كاملة مع الماضي، ولا يمكننا ان نمثله بصورة عادلة، لهذا تُكتب بعض الروايات تحت مظلة «التذكر التاريخي» لأحداث بعينها.
روبيرتو بولانيو يقول في روايته «نجم بعيد»:
«فقط الألم هو من يوثق الحياة، فقط الألم هو من يستطيع أن يكشفها».
الألم هو الشبح الحقيقي الذي طرد وايدر من الارض ودفعه لكتابة اشعاره بالسماء، والألم هو الذي دفعه لتسليط الضوء على جرائمه التي اقترفها بحق عشيقاته، وايدر قرر الاعتراف بانحرافه الوجودي عبر الفن، فالقتلة يتألمون لكن على طريقتهم.
السفير

شاهد أيضاً

العهدُ الآتي كتاب جديد لمحمد سناجلة يستشرف مستقبل الحياة والموت في ظل الثورة الصناعية الرابعة

(ثقافات) مستقبل الموت والطب والمرض والوظائف والغذاء والإنترنت والرواية والأدب عام 2070 العهدُ الآتي كتاب …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *