عبير أسبر
«إن القارئ الحكيم يجد في كل صفحة من كل كتاب جواباً أو شرحاً لسؤال مّا. «بحجة كهذه، يفرد ألبيرتو مانغويل ذاته على صفحات كثيرة، متحدثاً في مؤلفاته عن كتب كانت على تماس مع حياة عاشها كاملة، كأنه يقدم دليلاً، أو قاموس إرشاد في كيفية تذوق أفخر نتاجات العقل والروح البشرية. كتب «غير روائية»، تحدّث فيها بفائض حنين عن البهجات السريّة لأفعال القراءة واقتناء الكتب، والدوخة في زوايا المكتبات المعتمة، ثلاثة مؤلفات تامة، تتمتع بخواص الكمال، قيّمها بسرد شيق، كثيف ومعمق، تشاركها، أو بشّر بها كرسول مؤمن، محمل بالوصايا مع تلامذة أوفياء، لكنه كروائي يغيب عن ذاته الأخرى، الذات التقيمية تلك التي تعي مواطن الجمال في نتاج الآخرين، ففي روايته الخاصة، في قصته، سرده، تفاصيله، اللعبة تختلف!
عندما نستلم نحن «الكتّاب» زمام حكاياتنا، وتصبح كلمتنا نحن، مسؤوليتنا، وشهادتنا أمام العالم، وأمام ذاتنا الواعية. كله يختلف..
كتب مانغويل روايته «عودة» (*) بتقشف حكائي لافت، كأنه يخاف أن يُلتقط بوجعه، فكتب على عجل، «عودة»، هي عودة فعلية لرجل من هجرته القسرية إلى وطن غادره هارباً، وكما نفعل جميعاً عندما نعود إلى أمكنة غادرناها هاربين، فإننا نعود برهاب أن تتكرر ذات الظروف التي اضطهدتنا مرة، وتظهر أشباحنا، أو تمد ألسنتها الشيطانية لتخيفنا في الظلام، نخاف أن تقفز شخصيات الماضي على قماشة حياتنا، وتلطخ أزمنتنا مجدداً، ببقع لا يمكن محوها.
منذ بداية الرواية، يكشف ألبيرتو مانغويل مشاعره، «أخاف هذا البلد، كل ما فيه مقلق، لا أدري لما عدت، وما الذي افعله هنا بحق كل الآلهة»، الأرجنتين مثل كل البلاد المخيفة، لا نفتقدها إلا وجوه الأصدقاء، ولا نريد منها إلا ذكريات بعيدة عن حب خسرناه، الأرجنتين التي وصلها البطل، هي بلد اعتقالات، خاف ناسه، وانكمشوا حول تفاصيلهم فلم يتغيروا. ومع كل هذا يعود البطل، ليبقى، ليلتصق بمصير هرب منه، ليكون دليلاً للتائهين عن البلد، من أمثاله.
الحكاية هنا بسيطة، يتصل شاب ببطلنا، يخبره أنه ابنه بالمعمودية، ويطلب منه العودة، كي يقوم بدوره كعراب في حفل زفافه، الشاب هو ابن حبيبة البطل السابقة، التي هجرها خوفاً من الاضطهاد والقمع اللذين تعرض لهما جيلهم، فيعود تحت وطأة مشاعر الذنب، يعود، يضيع ويبقى، الحكاية فيها شكل من الكليشات الجاهزة، قمع اضطهاد، رعب، هجرة وعودة، في لعبة ذنب تتغذى من دائرتها المغلقة، نغص بالوطن المتروك وراءنا، ونعود للذوبان في بركة التوبة. تكرار الموضوع ذاته في آلاف الروايات لا يهم، لأن اللعبة الروائية في «عودة» هي ما تشدنا، لتضعنا في غرائبية كابوسية، فالأمكنة في البلد هي ذاتها، أسماء الشوارع والفنادق، والمقاهي والمكتبات، وفي البلد، هذا البلد فقط تستطيع أن ترى الوجوه ذاتها التي تركتها خلفك منذ أعوام، تتمشى قربك، وتحادثك بعمرها السابق، يتحرك الزمن في المدينة، لكنهم الأصدقاء يبقون أنفسهم، زملاء البطل، الذي هرب وترك كل ماضيه معهم كي يلوكوه حكايات وصورا مكرورة، على جدران الحانات، كأن وجوههم متروكة في مرايا الأمكنة، مثل معاطف عفنة على أجساد السكيرين، والكل نائم في زمنه الخاص.
الرواية أصغر من أن تكون رواية، والنوفيلا هو وصف قاصر لكتاب متقلص الطول، صحيح أن عدد الكلمات ليس من يحدد جنس الكتابة، لكن روح الحكاية هنا، قوامها، ونكهة وتكنيك السرد، تضعك مباشرة في عالم القصة القصيرة، التي تحمل وحدة عضوية من دون كثير من امتدادات. اللغة في الكتاب مضبوطة لدرجة الفقر، لا حاجة لألاعيب اللغة فالحبكة حاضرة بقوة، والالتواءات الممتعة تمسكك من أول السطور وتبقيك في تساؤل، هناك مخيلة لا شك، والنهاية تحمل شهقتها، ثم تهدأ مع الكاتب وتدخل في التأمل.
ذائقة مانغويل التي منحته الكثير، وصوته الذي رافق بورخس كقارئ، عندما أصيب بورخس بالعمى كانا أفضل ما حصل في حياته، يروي مانغويل: «في منتصف الخمسينيات، أصيب خورخي لويس بورخيس بالعمى، انتقل له المرض من والده، وعرضت عليه الحكومة الأرجنتينية بأن يكون الأمين العام للمكتبة الوطنية، حصل ذلك واقعاً وبمصادفة محضة لا نقبلها حتى من كاتب سرد رديء أو حتى متوسط، لكنها حدثت وأصبح بورخيس ثالث أمين أعمى للمكتبة» وأصبح ألبيرتو مانغويل بصوته، عيني بورخس اللتين فقدهما.
السفير