أمير تاج السرّ يفكك «عورات» المجتمع السوداني
فاطما خضر
بلغة مكثَّفة سوداء وفكاهة لاذعة، وجُمل قصيرة متلاحقة، وسرد يقترب أحياناً من الواقعية النقدية وتارةً من الرمزية الساخرة، يُشرِّح الطبيب والروائي السوداني أمير تاج السر، في روايته «عورة في الجوار» (هاشيت أنطوان – نوفل)، جسدَ المجتمع السوداني، كاشفاً عن العلل الكامنة في بنيته العميقة من تخلّف، وجهل، وعورات ليس بمعناها الاصطلاحي (ما يجب ستره من جسم الإنسان)، بل بوصفها بُنى اجتماعية.
من هو صاحب العورة الحقيقية؟

من هذه النقطة الأخيرة، يمكن فهم عنوان الرواية، وفهم الثيمة المركزية فيه وفي الرواية ككل: «العورة». إذ يتعامل تاج السر مع العورة على امتداد الرواية، على أنّها الخطيئة المستترة، والعيب الاجتماعي الذي يهدّد زعزعة الصورة النمطية الطاهرة التي يريد المجتمع تقديمها عن نفسه، رغم أنّ صورته الحقيقية مشوّهة من كثرة العيوب.
تطرح الرواية بذلك أسئلةً محوريّةً: من هو صاحب العورة الحقيقية؟ هل هو من يحمل سمةً مختلفةً وسط مجتمع ما؟ أم من يحمل خطيئةً ما؟أم المجتمع نفسه الموشوم بالنقص والمحكوم بالتخلّف؟
أمّا «الجوار»، فهو ليس مجرَّد حيّز جغرافي، بل هو فضاء العلاقات المتشابكة في الواقع السوداني الذي يُشكّل خلفية الرواية، حيث تذوب الحدود بين الخاص والعام، وتكون المراقبة الاجتماعية في
أقصى درجاتها.
تغدو بذلك الرواية كتالوغاً، يستعرض تاج السر عبره نقداً لاذعاً للازدواجية الأخلاقية والنفاق الاجتماعي، حيث يمارس الأفراد قمعاً شديداً في العلن بينما يعيشون حياةً أخرى في الخفاء.
زمن ما بعد الاستعمار البريطاني:
لا تُحدِّد الرواية حقبةً زمنيةً بعينها تنتمي إليها المجريات، ولكنّها تدور في زمن معاصر، مائع. في زمن ما بعد الاستعمار البريطاني للسودان (1899-1956)، حيث ما تزال البنى الاجتماعية التقليدية هي السائدة، رغم تغيّر الأنماط الظاهرية للحياة. وقد يكون ذلك اختياراً مقصوداً من الرَّاوي، يتناسب تماماً مع العبث المرافق لأحداثٍ لا تبدو أفقيّة وتسلسليّة ومباشرة، بقدر ما تبدو صوراً سريعةً تعكس نمط الحياة المتخلّف في الريف السوداني.
رغم انتقال الريف -وفقاً لتصوّر أبنائه- إلى عصر الحداثة، عبر التأثيرات الثقافيّة المستوردة من الخارج، التي تصل إلى الريف من المدن (كفرق الصرعات الموسيقيّة، وأحدث الأغاني، وموضة الهيبيز، وتحرّر الفتيات، وأحدث تسريحات الشَّعر، وآخر العطور… وما يشابهها)؛ لكن بقي المجتمع السوداني ككل (ريفاً ومدينةً) قابعاً في قوقعة الجهل، يُعاني من سيادة التقاليد البالية والأعراف المتوارثة بدل القانون والمنطق، لأنَّ ذاك الانتقال لم يكن مقترناً بنهضة علمية وحضارية، بل كان قائماً على الاستهلاك الثقافي السلبي المستورد مع التمسّك بالجهل والموروث.
العاشق المجنون وقصص الريف:
يُعدّ الحدث الأبرز في الرواية، لحظة وقوع سعيد الورّاق، الذي تعدّدت ألقابه وسط بيئة تشتهر بإطلاق الألقاب الساخرة على الآخرين، ولكل لقب من ألقابه حكاية: «تيس سليمان» و«قائد أركان الهمج» و«مهراجا العشق والجنون»، وأشهرها «كلب الحر»؛ في غرام «الرمّانة العوض الطيب»، ابنة المدينة الجميلة التي انتقلت إلى الحياة في الريف بعد زواجها من المهرّج «هارون مسلّم».
يجسد في هذه اللحظة ما كتبه أمير الشعراء أحمد شوقي في قصيدته «يا جارة الوادي»، وغنّته السيّدة فيروز: «وتعطّلت لغة الكلام وخاطبت عيني في لغة الهوى عيناك».
منذ رآها تعطّلَ عقله تماماً، وتحوّل في لحظةٍ إلى عاشق مجنون تابعها أوّلاً بنظراته، ثمَّ بساقَيه بعدما تركَ شاحنته في السوق، فعرف بيتها وأنّه جِيء بها من العاصمة حديثاً، بعد زواجها بأحدِ أبناء البلدة.
بعدها، جاء بشاحنته، وأوقفَها أمام بيتها، ورقدَ تحتها منقطِعاً عن الدنيا كلّها خمسة عشر عاماً. تمثّل هذه الحادثة العورة المكشوفة طوال خمسة وعشرين عاماً، ومختلف الخطايا التي ينكرها الجميع. عورة أصبحت الشُّغل الشاغل للجميع، وغطّت على شتى العيوب والنقائص بما فيها التخلّف والجهل، التي حكمت الجميع دون أدنى التفاتة منهم سوى لعورة مهراجا العشق والجنون.
تترافق هذه الحادثة الجوهرية في السرد، مع قصص أخرى من الريف السودانيّ، نجح تاج السر عبرها في إظهار الملامح العامّة والعادات الاجتماعية التي تسوده، من دون أدنى تجميل: النميمة، وإطلاق الألقاب كجزء مهم من الموروث القوميّ للبلاد، وإشاعة الفضائح، والكبت الجنسي، ونسوة مختصّات في تدبير الزيجات، وتزويج الفتيات ما إن يصلن سن البلوغ، واعتبار الزواج الدواء المناسب كي لا يصبن بالعشق، والحسد، والوقاحة كصفة يُفاخرون بها، وهتك الخصوصيّات، والسحر والشعوذة، والفتن اليومية، والنزق والغضب، بيئة فقيرة، وتفاوت طبقي هائل واقتتال قَبلي على أتفه الأسباب، وتقديس المسؤولين، والوصول إلى السلطة بطرق متخلّفة وصادمة (مثل سليمان مختار عقارب الذي وصل إلى مجلس الشعب بضربة فأس قوية بترت شجرة خصمه) وغيرها من ملامح الجهل والتخلّف…
أدب الانزياح:
هكذا قدّم تاج السر شخصيّات اجتماعيّة، وسياسيّة، ودينيّة من قلب الواقع السوداني، معرّياً حقيقتها المتخلّفة والجاهلة في سرد امتزج بالفكاهة السوداء، ومعرّجاً على أحداث تاريخيّة كالوقائع والانقلابات العسكريّة، والحروب ضدّ المستعمِر البريطاني، والثورة المهديّة بقيادة المهدي محمد أحمد بن عبد الله بن فحل، وغيرها…. يقدّم بذلك روايته التي تتجلّى أهميتها في جرأتها على طرح الممنوعات الاجتماعية التي تظل عادةً حبيسة الصمت. يضع بذلك روايته في سياق أدب الانزياح الذي يفتح ملفات مغلقة، من دون الانشغال المباشر في الهموم السياسية والقضايا الوجودية الكبرى، واضعاً ثيمة العورة الاجتماعية تحت مجهره السردي، في محاولة جريئة منه لقلب الطاولة على الخطاب الأخلاقي السائد.
-
عن الأخبار اللبنانية
ثقافات موقع عربي لنشر الآداب والفنون والفكر يهتم بالتوجه نحو ثقافة إيجابية تنويرية جديدة ..!