*حنان عقيل
مشروع الكاتبة الكويتية بثينة العيسى الأدبي الذي بدأ برواية “ارتطام لم يسمع له دوي” عام 2004، توالى بعد ذلك بعدة أعمال بارزة منها “كبرت ونسيت أن أنسى”، “عائشة تنزل إلى العالم السفلي”، “سعار”، “تحت أقدام الأمهات”، وأخيرا رواية “خرائط التيه” الصادرة مؤخرا عن الدار العربية للعلوم، وقد حفلت بالعديد من القضايا، جاءت على رأسها قضايا المرأة وهمومها التي تتصل بهموم الوطن، هموم الفقد وما يخلفه من آثار نفسية بغيضة.
خرائط التيه
في روايتها الأخيرة “خرائط التيه” تنتقل الروائية الشابة بثينة العيسى إلى عوالم روائية جديدة، وتطرق أبوابا لم تطرقها من قبل، والدان يفقدان ابنهما أثناء أداء مناسك الحج، فينطلقان في رحلة البحث عنه في عدة بلدان، لتتطرق من خلال الرواية إلى قضايا عدة منها المتاجرة بالأعضاء، التيه الإنساني وقضايا الوجود ومشاكله.
سيطرت ثيمة الفقد على رواية “خرائط التيه”، وكانت الثيمة الرئيسية أيضا في روايتها “عائشة تنزل إلى العالم السفلي” التي ارتكزت على مشاعر فقدان الأم لابنها الصغير، حيث تتحدث العيسى عن الخروج من مأزق التكرار في التعبير عن الثيمة ذاتها في أعمال متفرقة قائلة: أعتقد أن هناك طرقا لا نهائية للكتابة عن الموضوع نفسه. الحب على سبيل المثال، أو الفقد في حالتي أنا. للفقد أشكال لا نهائية، وهي لا تتعلق بالآخر الذي نفقده بقدر ما تتعلق بتلك الأجزاء التي تتفتّت منا بسبب رحيله، أو الطريقة التي رحل بها. وإذا كان هناك خيط موضوعي يشدّ “عائشة تنزل إلى العالم السّفلي” إلى “خرائط التيه”، فإن الحكاية مختلفة تماما، وكذلك اللغة، والصوت الذي سردت به القصّة، وأنماط الشخوص، والعوالم الجغرافية.
وتضيف “عائشة كتبت بصوت الأم المفجوعة، ولهذا كانت هناك صفحات وصفحات من البوح الأليم. في خرائط التيه، نطارد طفلا مختطفا، ليس لدينا الوقت للتفكير بمشاعرنا أصلا، وكل ما نستطيع فعله هو الرّكض. ناهيك عن كونها كتبت بالصّوت الثالث (الراوي العليم)، وهو الأمر الذي سمح لي بأن أبقي على مسافة بيني وبين الشخصيات لكي لا أذوب داخلها تماما، ولكي أحافظ على لغة محايدة بقدر الإمكان في معالجة الموضوع. وجهة نظري كانت ولا تزال، أنّك عندما تعالج موضوعا بهذه الفداحة، تقل حاجتك إلى الشرح. أكتب الأشياء كما هي، وهي ستتكفّل بنفسها، هذا لا يعني أن درجة الاشتغال على اللغة أقل بالضرورة… بل على العكس، يتطلب الأمر جهدا حقيقيا لكي تتخلّص من لغة شعرية التصقت بك طوال حياتك، وأن تستبدلها بلغة اقتصادية، مرشّدة، تمثل في النص بصفتها تلك النافذة الزجاجية التي نطلّ منها على الحكاية”.
جريمة الكتابة
في كثير من الأحيان، ينتقل إلى القارئ شعور بالاكتئاب والضيق بعد الانتهاء من قراءة بعض أعمال الكاتبة مثل “عائشة تنزل إلى العالم السفلي” و”خرائط التيه” و”كبرت ونسيت أن أنسى”. وترجع العيسى ذلك إلى أن ما تكتبه غير مسل. فهي لا تكتب لتسلية القارئ، مضيفة: أعتقد بأن هناك فرقا شاسعا بين التسلية واللذة. إنه يمكن أن تقرأ نصوصا قاسية وجارحة ومع ذلك تستلذّ بها، بالبراعة التي كتبت بها، بالاتساع في رقعتك الوجودية وأنت تتماهى مع شخوصها، بإعادة صياغة فهمك لذاتك وللعالم من خلالها. إن قسوتي على قارئي هي نتيجة طبيعية لقسوتي على نفسي أثناء الكتابة، وأنا أدعو قارئي دائما إلى تبني جراح جديدة لم يجربها في حياته، لتوسيع خارطته الوجودية والإنسانية من خلال التماهي مع الآخر، الذي هو الشخصية التي أقوم باختراعها.
تأتي الكتابة كعصارة لروح الكاتب.. تتحدث العيسى عن إرهاق الكتابة لها قائلة: كتابة “عائشة” كانت قاسية على نحو لا يحتمل بالنسبة إليّ كأم. وفي “كبرت ونسيت أن أنسى” بكيت مرارا. ولكن “خرائط التيه” كانت جحيما حقيقيا. أصبت بالحمّى، وكنت أدرك بأن العمل هو الذي أمرضني. كنت أعرف بأنني أنظر إلى وحشية العالم عبر زجاج الكتابة، وأن ما أراه لن يفارقني أبدا. أحيانا كنت أبعد يديّ عن لوحة المفاتيح وأحدق في الشاشة بذهول وأنا أتساءل، من أين جاء كل هذا؟.
وعن النهايات المفتوحة في أعمالها تقول: هي الأقرب إلى الواقع. كما أنها تسمح للقارئ بالمشاركة في كتابة العمل. عندما يأتيني قارئ ويسألني، هل ماتت عائشة في النهاية؟ أطلب منه أن يقرّر نهايتها بنفسه. بعضهم أماتها، بعضهم أحياها. إشراك القارئ في خلق مصير الشخصية يجعله شريكا في جريمة الكتابة، جريمة الوجود الفادحة. إنه يسقط تجربته (القرائية والحياتية) على الشخصية ويخصّب حياتها بحياته. النهاية المفتوحة هي الأقرب إليّ شخصيا، ولكنّ هذا لا يجعلها النهاية الوحيدة. الأمر يتفاوت حسب الحكاية، وأعتقد بأن حكاياتي، كلها، لا تقبل الانتهاء بشكل حاسم ونظيف. إنها ملتبسة وتشبه شخوصها”.
تحفل أعمال بثينة العيسى بالكثير من المعلومات والوثائق، فكثيرا ما تهتم بالجانب المعلوماتي في العمل الروائي مثل المعلومات عن الآلهة إنانا في “عائشة تنزل إلى العالم السفلي” أو المعلومات في “خرائط التيه” عن مصر وإسرائيل وتجارة الأعضاء، وفي هذا الصدد تؤكد العيسى أنها تبذل جهدا كبيرا في البحث، وهو عادة ما يكون مواكبا للكتابة الأولية التي تحتاج إليها حتى تتبيّن ما ينقصها، خاصّة في بدايات العمل، حيث الرؤية غامضة وأمور كثيرة تطرأ على الحكاية دون تخطيط.
مطاردة الشخوص
وردا على سؤالنا لها “إلى أيّ مدى يشغلك القارئ أثناء كتابتك لعملك الأدبي؟”، تلفت العيسى إلى أن القارئ لا يشغلها كثيرا، موضحة “تشغلني الشخوص. إنني منهمكة في مطاردتها واستنطاقها وفهمها. عندما لا أكتب، فأنا في العادة أتحدث مع أصدقائي وعائلتي عن العمل، أو أتأمّل فيه. أدوّن ملاحظات وأقرأ في أنماط الشخصيات وأبحث عن صور لأشخاص يشبهون شخصياتي. أقرأ في مجالات المهن التي تمارسها الشخوص، في تفاصيل البيئة المكانية. ألتقي بأشخاص يستطيعون تعميق فهمي لموضوعي، أنصت لمحاضرات ومناظرات تتعلق بما أكتبه. أبحث عن موسيقى مناسبة تشبه الشخصية ومكانها. الشخص الوحيد الذي يشغلني أثناء الكتابة هو الشخصية التي أكتبها. القلق بشأن القارئ يجيء لاحقا، بعد أن يصدر الكتاب”.
وتشير إلى أن الكتابة هي الطريقة الوحيدة التي يمكن أن توجد من خلالها في هذا العالم. هي الأوكسجين الوحيد الممكن في عالم ملوث على نحو لا يمكن إصلاحه.
يقول ماركيز إن كل رواية ناجحة هي سيرة ذاتية بشكل أو بآخر… وتتفق صاحبة “كبرت ونسيت أن أنسى” مع هذا القول، قائلة “الأمر لا يقتصر على الرواية، فكل قصيدة، كل مسرحية، كل فيلم، كل لوحة، كل أغنية، كل معزوفة موسيقية هي سيرة ذاتية بشكل أو بآخر. لا يمكن أن نخلق عملا فنيا حقيقيا دون اغتراف عميق من الذات. كولن ولسون، في كتابه فن الرواية، يرى بأن للرواية وظيفة المرآة. هل هذا يعني أنني أكتب قصتي دائما؟ أعتقد بأن هذا فهم سطحي للأمر. إنني أكتب ذاتي ولا أكتب بالضرورة قصّتي. أكتب عن أسئلتي، الأفكار التي تنتابني، أكتب عن ذعري من العالم وبهجتي الأبدية بالحياة. إنني متورّطة في كلّ ما أكتبه، غارقة في النّص حتى أذنيّ”.
وحول أعمالها التي تصنف تحت بند الأكثر مبيعا في عدد من الدول، وردها على من يعتبر ذلك مجرد “فقاعة” لا أساس لها، وليست معيارا مناسبا للتقييم، تقول العيسى “أوافق بأنّها ليست معيارا للتقييم الفنّي. لأنه لا يمكن أن يكون هناك معيار مطلق ونهائي للتقييم، الكتب الأكثر مبيعا ليست جيدة بالضرورة، كما أنها ليست رديئة بالضرورة. وفي الوقت الذي راجت فيه روايات فقيرة وبالغة الضعف، راجت أيضا أعمال جميلة وأحبّها. إنّها ليست معيارا للأفضلية، ولا مؤشرا على الجودة الفنية، وليست أيضا مؤشرا على الضعف والرداءة، كما يحلو للبعض أن يقول. إنها ببساطة شديدة -وإذا افترضنا نزاهتها- تعبّر عن الرواج”.
قضايا الإنسان
تبدو الكاتبة مهمومة بقضايا المرأة في الكثير من أعمالها منها “تحت أقدام الأمهات”، “عروس المطر”، وهنا تصرح العيسى بأنه يزعجها فصل قضايا المرأة عن قضايا الإنسان. فمن السهل أن تقرأ “كبرت ونسيت أن أنسى” كرواية تحكي همّ الفتيات الرازحات تحت سلطة وليّ الأمر المطلقة. ولكنها في الحقيقة تحكي قصّة أيّ إنسان مستلب. فالأفلام التي تناولت العنصرية ضد السود تمسها كامرأة وتستطيع أن تفهمها وتقرأ تفاصيلها بكلّ قلبها. القضية ليست المرأة، ولا الرجل. القضية هي الإنسان.
في روايتها الأخيرة “خرائط التيه” تخلت العيسى قليلا عن ثيمة الكتابة عن المرأة، وعن هذا تقول: نحن نكتب عادة عما نعرف. أحيانا تكون المغامرة هي أن نكتب عما لا نعرف. قلت ذلك في إحدى ورش العمل التي قدّمتها، ثم ضربتني صاعقة داخل رأسي وأنا أفكر بكل الكتب التي كتبتها حتى ذلك اليوم. لقد كتبت دائما عما أعرفه، فأين هي مغامرتي؟
وتضيف: أعتقد بأنّ خرائط التيه تجربة مختلفة على مستوى الموضوع، والسؤال، والمعالجة الفنية على حدّ سواء. عندما بدأت بكتابتها قررت أن أتخلى عن أدواتي التي ألفتها طوال تسع سنوات من الكتابة، وأن أكتبها وكأنها روايتي الأولى. الأمر يشبه أن يبدأ الأعسر فجأة في استخدام يمناه. أو أن يلجأ الفنان إلى استخدام تلك الريشة التي نادرا ما يستخدمها في صنع لوحاته. ولم أكن أتخيّل، للحظة، أنّ الأمر سيكون ممتعا إلى هذه الدرجة. فأن تكتب عما لا تعرف، وبطريقة لم تعتد عليها، يعني أن تكتب يقظا، أن تطفئ “الكاتب الأوتوماتيكي” الذي يعرف طريقه بقوى اللاوعي. أن تعيد الكتابة إلى دهشتها الأولى.
كتبت العيسى في الشعر، وهي محاولات تحبّها ولكنها لا تملك الجرأة للنظر إليها كـ”تجربة شعرية” جديرة بالنشر الورقي. فهي منشورة في موقعها الشخصي لمن أحبّ قراءتها، وهذه المحاولات كان لها دور كبير في ثقل لغتها بالغة الشعرية، التي تظهر في كافة أعمالها الأدبية.
تنافس مبهج
وعن الوضع الثقافي في الكويت، ومدى تقدمه تقول: ما يحدث في الكويت مثير للاهتمام فعلا. فالقراءة في تزايد، وهناك عشرات من أندية القراءة والصالونات الثقافية والمجاميع الفاعلة على الساحة. هناك جدية عالية في التعاطي مع الكتابة كصنعة، وتنافس مبهج بين الكتّاب للإتيان بجديد. باسمة العنزي حصلت على إحدى جوائز الشارقة للإبداع العربي عن روايتها “حذاء أسود على الرصيف”، إسماعيل فهد إسماعيل تأهّل للقائمة الطويلة في جائزة البوكر العربية بروايته “في حضرة العنقاء والخل الوفي”، ومثله عبدالوهاب الحمادي بروايته “لا تقصص رؤياك”، ناهيك عن فوز “ساق البامبو” بالبوكر 2013، وظهور دور نشر جديدة على الساحة، نوفا بلس، الفراشة، مسارات، وغيرها.. هناك حيوية لافتة في الساحة الأدبية في الوقت الذي تتصرّف فيه الدولة على الشكل النقيض؛ منع الكتب ومراقبة المكتبات، المفارقة أن الثقافة في الكويت تعيش فترة انتعاش، رغم القوانين التعسفية في المنع والرقابة والمصادرة المنهجية والمستمرة لما بقي لدينا من حريات.
وانتقالا للحديث عن الجوائز، توضح الكاتبة: لا توجد “أداة مناسبة للتقييم” على الإطلاق، لا توجد تقييمات مطلقة. الجوائز تعبر عن وجهة نظر لجنة التحكيم التي يمكنك ببساطة شديدة أن تتفق أو تختلف معها. إنها ليست سلطة ذات مرجعية سيادية تقرّر بالنيابة عنك ما هو العمل الجيد وما هو العمل الرديء. وبناء عليه، أنا لا أفهم هذا الغضب على الجوائز، فهي ليست سلطة مستبدة تحتكر القول الفصل في ما يتعلق بالأدب، وأفضل أن أوجّه غضبي إلى أمور أخرى، تراجع التعليم، تدهور الحريات، الجهل، المجازر، الحروب الطائفية. أشياء جديرة بأن تغضبني فعلا.
_______
*العرب