ليلى بركات: الكتابة متاهة مفتوحة


*إسماعيل فقيه


بدأت الكتابة باكراً، وأولى كتاباتها كانت بالفرنسية، عدة روايات تناولت فيها وعيها الأول في مساحة حياة عامة عاشتها وعايشتها. الدكتورة ليلى بركات كاتبة فرنكوفونية، تلتزم الكتابة والعمل كأنها أمام واجب يومي. وقد شغلت في المجال الثقافي والإداري مع الاتحاد الأوروبي، وأسند لها سابقاً، منسقة عامة ل «بيروت عاصمة عالمية للكتاب 2010»، وهي اليوم رئيسة تحرير الملحق الفرنكوفوني لجريدة «السفير». لا تزال على عهدها في الكتابة والعمل والنشاط الثقافي المثمر والمفيد والفاعل في الواقع والمجتمع. في خضم تجربتها الثقافية المستمرة، التقينا بالكاتبة المنشغلة على مدار الساعة بأمور الكتابة وما يليها من هموم الوعي والثقافة والكتابة.
} إلى أين وصلت ليلى بركات في سعيها مع الكتابة والثقافة؟
أتمنى أن يكون هذا السعي الثقافي في مسافته الصحيحة التي تسير على درب الطريق الناجع. أما إلى أين وصلت في مسيرة ثقافية اخترتها لنفسي، فإنني أقول ما أكرره دائماً، الثقافة نشاط يومي ودائم في حياتي، وسوف يستمر بشكل متصاعد، لأنني لا أملك سوى هذا السعي الذي أشرت إليه بكلامك.
} تشرفين اليوم على الملحق الفرنكوفوني لجريدة السفير، كيف توظفين ثقافتك داخل هذا المشروع الثقافي المميز؟
لا شك أنه مشروع ثقافي مهم، وقد اخترت هذا العمل بالتحديد لأنه يمثل حقيقة مهمة وأساسية من ثقافة انطلقت بها وانطلقت بي. أنت تعرف أنني امرأة لا ترى إلاّ بعين ثقافية ولا تسمع إلا بأذن ثقافية تطربني وتصدح في وعي المستمر. والملحق الفرنكوفوني هو من صميم هذا الأساس الذي أتحرك بفضله. وبالطبع، لقد اسهمت ثقافتي الفرنكوفونية بتعزيز طموحي في إعلاء شأن الثقافة التي تخاطبني بالصميم.
} الثقافة الفرنكوفونية تبقى هي الأساس في ذاكرة وعيك الثقافي، ألم تعمل ليلى بركات، كما في سعيها وطموحها، إلى ثقافة تالية، ثقافة عربية. بمعنى آخر، لماذا لا تكتبين بلغة عربية إلى جانب لغتك الفرنسية؟
قلت وأكرر، ثقافتي تربّت وترعرعت ونشأت على وعي ثقافي فرنكوفوني، وكذلك دراستي كانت مساحة ثقافية فرنسية بحتة، ولم تكن اللغة العربية سوى لغة تواصل مع محيطي. صحيح أنني امرأة قادمة من ثقافة عربية مشرقية وجذوري ضاربة في هذا الوعي المشرقي، وهذا أمر أعتز به كثيراً، ولكن كما أسلفت وقلت، تبقى المرحلة، مرحلة البداية والانطلاق هي الأساس. ثم لا تنسى أنني أكتب بلغة فرنسية، ولكن كتاباتي هي ترجمة لواقع مشرقي، وتعبير عن علاقة متينة بيني وبين محيطي العربي.
} أتفهم جيداً ما تقولينه، ولكن أسالك عن قدرة وعيك الثقافي على ترجمة الإحساس. هل كتابة أو رسم المشهد والصورة الثقافية وحتى الدلالة والمعنى، هل يمكن المزج فيها؟ كأنك تكتبين بلغتين أو أنك قد تضيعين بين وعيك المشرقي ووعيك الفرنكوفوني؟
ربما يكون الأمر في وجه من وجوهه على دراية صحيحة بالتفسير، وأجد في سؤالك ما يحرضني على إثبات حقيقة أو صورة الوعي المنظّم والمنتظم في هرمية ثقافتي، والتي هي بالتأكيد غير مزدوجة. وباختصار أقول، إن امتلاك المرء لثقافة واسعة أمر يتطلب الحشد في المعرفة والتوغل عميقاً في الوعي المفتوح على الثقافة الواسعة. وأرى العلاقة التي تربطني بهذا المدّ المعرفي، من لغة فرنسية إلى لغة عربية وحتى إلى لغة أخرى ثالثة، هي علاقة ضرورية لتأصيل البناء الثقافي للمرء وتحويلة إلى منارة تنير درب العقل وتفتح له مسافة الحرية والحركة وحتى التحليق والطيران.
} ألاحظ في كلامك الآن في حوارنا هذا وجود ثقافة عربية أصيلة، كأنك تشتغلين على ثقافة مفتوحة لا تعرف التناقض.؟
بالتأكيد لا وجود للتناقض في توجهي الثقافي رغم تداخل الثقافتين في حركية قراءتي للمشهد الثقافي الكبير، وفي نشاط المعرفة التي تتحرك في داخلي، داخل وعي الثقافي الذي لا يهدأ ولا يعرف الهدوء. وسيبقى على هذا الزّخم إلى ما شاء الله.
} أستشف من كلامك صورة علاقة وطيدة جداً مع الكتابة. ماذا تعني لك الكتابة، أو لماذا تكتبين وكيف تكتبين؟
أنت تعرف، وكل كاتب مخضرم وكل أديب أو شاعر يعرف أن الكتابة هي عمل شاق ومتعب وفيه يكمن الهلاك والحياة العاصفة. نعم الكتابة عمل شاق، لكنه عمل مفيد وجميل ومريح ويساعدني على امتلاك الكثير من الأمور التي تساعدني أيضاً على بناء صورة مستقبلية واعدة.
الكتابة بالنسبة لي هي نشاط عارم وكثيف، كلّما توغّلت في عبوره أو في سبر أغواره أجد نفسي في متاهة مفتوحة وعلى دراية بما لا أعرفه، وتشدني إلى جحيم واسع، حيث تتراءى لي مساحات أخرى. وأرى من واجبي أن أستمر في هذه المتاهة حتى أعثر على ما أريد وما أشتهي من تفاصيل غائبة عن تطلعاتي ونظراتي الحادّة. الكتابة ترفع من حدّة وعي البصيرة، فيجد الكاتب، في كل ما يكتبة، ما هو غائب وبعيد، كل ما هو محتمل أو غير محتمل.
} هل من الممكن أن تكون الكتابة هي متنفّسك الوحيد خصوصاً وأنك متفرغة للكتابة والنشاط الثقافي، ولا شيء آخر في حياتك؟
في سؤالك كل الجواب. الكتابة لي هي متنفّسي وحريتي. والنشاط الثقافي الذي أضمّه ويضمّني هو كل هذا التّنفس الذي يملأ رئتي بالهواء النقي والصافي. الكتابة أجمل وأرقى حين تكون متنفّس المرء، دائماً.
} هل أنت امرأة سعيدة أو حزينة؟
لن أقول لك كما قيل ويقال دائماً على لسان الكتّاب بأن السعادة والأحزان لا يفترقان. أنا امرأة تعيش على حافة الهاوية، وكم تبدو هذه الهاوية واسعة وفسيحة وفيها مساحات غامضة ومكشوفة، وأجد، وربما، من الضروري عبور هذه المساحة الواسعة، وإن كانت هذه المساحة هي مساحة الهاوية.
} يعني حزينة وغير سعيدة؟
ليس الأمر كذلك أبداً. من قال بأن الدخول إلى عقر دار الهاوية يجلب الحزن فقط؟ أليست الهاوية هي مساحة واسعة وفيها كل ما هو غائم وغائب؟ ثم لماذا نقرن الحزن والتعاسة بكل ما يشدّنا إلى القلق والحيرة؟
ربما أكون غير سعيدة ولكن هذا لا يعني أنني تعيسة. السعادة ممكنة وقائمة وقد تظهر فجأة وتأخذني إلى عمر أجمل.
} قد تكون الكتابة هي سعادتك؟
حتماً الكتابة تحمل الكثير من مفاجآة السعادة. وكذلك السعادة تحمل الكثير من مفاجآت الكتابة.
} ماذا تعني لك العلاقة بالآخر، وأقصد كل آخر، الصديق والحبيب والرفيق والجار والمقيم والعابر والمسافر والعائد…؟
كلهم أحبابي. كل الذين يشكلون صورة الآخر في محيطي وأيامي وثقافتي وعملي هم ظلال لحياتي. صحيح أنني متفرغة للعمل والثقافة ولا أجد وقتاً لحكّ رأسي إلاّ أنني أجد نفسي، في أوقات عملي وانشغالاتي، على تماس مباشر مع الآخر، بما يمثل من حاجة أو تكافل وتواصل بيننا.
______
*الخليج الثقافي

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *