*عاصف الخالدي
خاص ( ثقافات )
الشاعر المرتبط بالأرض، لا يولد إلا حين يسمع استغاثتها، الأرض الأم، التي تلوب، بحثاً عن أبنائها، عن أصواتهم وهي تنادي بالشعر بعد أن ضيعتهم الجهات، في هذا العالم.
كيف تعود إلى وطن وأنت فيه؟. هل تنسى مكان بيتك؟. هل تنسى رائحة المكان التي تعلق بجلدك؟. أم أن الشاعر ينسى؟. إن منح الأرض صفة الاحتلال، يجعل من وجود الإنسان على أرضه في اللحظة التي يعي فيها هذا الاحتلال، قضية أساسية لا فكاك منها،فتصير أبسط التفاصيل، وأصغر العادات، طقوساً مقدسة، لا انفصام عنها ربما، إلا بالموت. أما الشعر في هذه الحال، فإنه النص الذي يستوعب كل هذا، الذي يستطيع أن يسبق الزمن أيضاً، ليواجه الاحتلال، وليبشر بزواله، وفي كل الأحوال، فإن الشعر، لا يتخذ إلا جهة الإنسان، الجهة التي انتمى إليها سميح القاسم أيضاً، بصفته إنساناً، وفلسطينياً، وشاعراً.
في المقابل، حاول الاحتلال لمرات عديدة تجريد الشاعر من وجوده، ومن إكمال طريقه تجاه الوطن، وفي المرات التي طرد فيها من عمله أو تعرض فيها للاعتقال والتهديد بالقتل، كان الاحتلال يعلق ببساطة: شخص غير مرغوب فيه. مستخدماً الشعر كدليل لن يُضيعَ معه الأثر، يرد سميح: بأن الخفافيش، المحملة بالظلام، لن تمنعه من حفر درب من النور، يقود إلى الوطن. في رسالة موجهة إلى غزاة لا يقرأون، يكتب سميح عن إنسان الأرض المناضل، الذي يسير، تخلع الأشجار جذورها متبعة خطاه، مقلدة إياه، منتصب القامة، مرفوع الهامة. إن كل طريق تتخذُ تجاه الحرية، لا بد أن تقود إلى الوطن.
تستعيد ذاكرتي لقاءه الوحيد في التسعينات من القرن الماضي، في أمسية أقيمت له في مسقط رأسه في مدينة الزرقاء الأردنية، في ذلك اليوم، حضر عدد كبير من الناس والمثقفين، ولم تتسع القاعة أبداً، ولا الساحة الخارجية للجمهور، وعندما وقف سميح أمامهم، وبدأ يلقي، بانت علاقته العميقة بما يكتب، كان يعيد تأليف قصائده أمام جمهوره، وكان جلياً أن القصيدة تنطلق من وجدانه لتلامس الناس بشكل عميق، عندما يتفنن في إلقائها، تاركاً شرخاً صغيراً في الذاكرة، يتدفق منه ماء الشعر،وشعرت في تلك الأمسية، أنه يجول حاملاً قصائده، متفقداً الأمكنة البعيدة، ليسقي العطشى، الذين يحنون بكل الأشكال إلى الأرض. وكأي شاعر ولد في زمن الاحتلال، فإن حرض على المقاومة مستخدماً الشعر، ولم يزل فضاءه الشعري المفعم بقصائد تصاعدية كثيرة، تملؤها الحركة، ويشكلها الفعل الإنساني، تعمل حتى اليوم، بحيوية كاملة، دون كلل، لتترك تأثيرها، على إنسان الأرض المحتلة، وتقول كلمتها في وجه الاحتلال. نهل سميح أيضاً من نبع التراث الشعري العربي القديم، وقدم نصوص عديدة، استخدم فيها تقنيات التناص، وأساليب فنية استرجاعية، وظفها بشكل جميل، في قصائد مختلفة، وفي عدد كبير من الدواوين والكتب، تعنى أيضاً بالحياة، والفن، فلم تقتصر أعماله الشعرية فقط على فكرة المقاومة، ولأن مقاومة الغزاة فعل حياة، فإن اللقب الذي أطلق حينها على شعراء كسميح ومحمود درويش، (أطلق من الخارج)، على شعراء الداخل المحتل، لم يمنع سميح القاسم من القول بأن هذه القدرية التي دفعتهم ليكونوا شعراء موجودين تحت الاحتلال، لن تؤطرهم في مربع الأدب الملتزم فقط، وإنهم دائماً، سيحتفلون بكل ما يمثل الحياة، فالشعر في النهاية، هو الحياة نفسها.
متى يموت الشاعر؟. لا أحد يعلم جواب هذا حقاً، إن حياة الشاعر تظل مستمرة ومتجددة، بعد أن استطاعت قصائده اقتطاع مساحة من الزمن لا تنتهي، وبعد أن ارتبطت بقضية وجودية تخص الأرض والإنسان متمثلة في فلسطين التي تشكل اليوم آخر معقل للإنسانية في مواجهة الاحتلال في هذا العالم. إن الشاعر الذي ينبثق تلبية لنداء الأرض، لا يموت بعد أن تنهي الأرض صرختها. للطبيعة، ذاكرة لا تموت، وفيها شخوصها الذين لا يموتون.
في ذكرى سميح القاسم، الشاعر العربي الفلسطيني المولود عام 1939، الباقي ما بقيت الأرض، لطالما اتخذ جهة خامسة، لا تمت إلى الشمال أو الجنوب بصلة، ولا تبدو فيها الريح الشرقية أو الغربية في زمن العواصف ذات تأثير، انحاز بشعره وحياته إلى جهة الوطن،الذي تقود كل الجهات إليه، أو كما أسماها سميح القاسم ذات ديوان: جهات الروح.
أسْوَةً بالملائكةِ الخائفينَ على غيمةٍ خائفهْ
في مَدى العاصفهْ
أُسْوَةً بالأباطرةِ الغابرينْ
والقياصرةِ الغاربينْ
في صدى المدنِ الغاربَهْ
وبوقتٍ يسيرُ على ساعتي الواقفَهْ
أُسْوَةً بالصعاليكِ والهومْلِسّ
بين أنقاضِ مانهاتن الكاذبَهْ
أُسْوَةً بالشعوبِ التي أوشكتْ أن تبيدْ:
أرتدي كفني
صارخاً: آخ يا جبلي المُنحني
آخ يا وطني
آخ يا وطني
*روائي أردني.