محسن صالح
رواية تكاملت فيها كل الأركان فتراها فسيفساء متعددة الألوان تبهرك في هدوء وتجذبك في رقة وتدخلك إلى عالم آخر من الأحداث التي ترى. تحاول أن تمسك بالحقيقة، فتجدها تراوغك كما هو الواقع المعاش، تعايشه وتتكدر بصفوه وتتلمس حلاواته القليله النادرة الشحيحة، ولكنك في خاتمة المطاف تضحك وتستمر في الخطو في طريق الحياة وأنت تخاطب المكوجي الذي يشكو، وصاحب ورشة إصلاح السيارات الذي يتألم، والست صاحبة الكشك التي تبكي. مشاهد نراها حولنا في واقع الحياة المعاشة ونختم في نهاية الشكوى والتأمل وأحيانا ذرف الدموع وأحيانا نادرة النشيج ونحن نقول في استسلام وادع: هيه أهي حياة والسلام.
“سانت تريزا” رائعة البناء، تعتمد على تعدد الأصوات وانسياب الكلمات والعبارات في تواشج اللحظة والحدث، ولا ترى خلال كل أحداث الرواية التي تتردد أحداثها في تفاعل طاحن إلا جمال السبك ورص العبارات في روعة تأخذ بتلابيب عقل القارئ وتهزه هزا، قائلة له: “أنا هنا، أنا هنا”. إنه الدكتور بهاء عبد المجيد الذي أبدع، وإنه الفكر الذي صاغ كل هذا في تضافر تحس معه بأن كل العناصر الكبيرة والعناصر الصغيرة وضربة الفرشاة لهذه الشخصية أو تلك أضافت وأنارت كل جوانب الشخصيات.
يكتب الدكتور بهاء عبد المجيد ويسبك عباراته، وترى هنا وهناك آثارا لفكره في تضاعيف العمل الروائي، فهذا “لوكا” يتقن الإنجليزية والفرنسية، وهذه “سوسن” تلتحق بدراسة اللغة الفرنسية بل نراها تذهب إلى ما هو أكبر من ذلك متمثلا في تطوير منهج تدريس اللغة الفرنسية، فتأتي الإجابة الصادمة شأن كل إجابات الواقع المعاش” انتبهي يا مودموازيل لدروسك، فالإمتحان على الأبواب، ولا تضيعي الوقت في مثل هذه الأفكار غير المجدية”(ص92).
نرى كذلك القراءات المختلفة التي تقوم بها “سوسن” بعد أن التقت بسليم وشاهدته وغير لها من نظرتها للحياة ومايدور حولها، فنجدها تقرأ في الفلسفة وتعرف طريق المعاجم والموسوعات، وتبدأ في التردد على المكتبة لتقرأ الأدباء الذين يتكلم عنهم سليم. وتعرف منه المقولة الهامة التي تغير حياتها “ليس مهما الجسد الذي يحتويك، الدور الذي تلعبينه هو المهم “(ص47).
تطالعنا هذه الرواية بحزمة من الشخصيات الجميلة التي تعكس الواقع بكل توتراته المختلفة وكذلك تطلعاته المستقبليه، فنرى هناك بطلتي الرواية في نظري، “بدور” و”سوسن” تنشأن في نفس المكان وإن اختلفت الديانة تتعايشان وتتزاوران ولا نلمح إلا الحب والمودة، وحول هذين الكوكبين تدور باقي الشخصيات الأخرى وتتفاعل، فنجد هناك مع “بدور” والدها وجدتها وجرجس ولوقا وسابينا وفرونيكا وهناك مع “سوسن” نجد والدة سوسن، وأخيها سعيد، ووالدها، ونجد سليم حبيبها ونجد لوكا ونجد بدور أيضا. كلها دوائر تتلاقي وتلف وتدور فتظهر التقاطعات التي تحمل لنا المعاني وتنقل لنا الأحداث في بولوفونية، تتمازج فيه عناصر الحكي والقص من مكان وشخصيات ومواقف وحكايات وتداعيات، وربط بالأحداث العامة، ولغة وتركيبات واقتباسات من الكتاب المقدس، ومخاوف وتأوهات وقتل وهلاوس وجنون، من أجل أن نجد “سانت تريزا” أمامنا رواية تكاملت عناصرها فأضحت معمارا يأخذ بالألباب. أنظر إلى سانت تريزا فأشم رائحة الحارة وأرى عادل وأصاحبه بعيثهم هناك، وأرى “بدور” العايقة تنظر إلى نفسها في المرآة وهي تستعد للخروج لمقابلة لوكا، وهناك سوسن التي تغلي الشهوة في جسدها وهي تنظر إلى بدور وهي تحكي لها ما دار مع لوكا. وسليم مسجون وهي تريده وتريد الرجل وترى أمامها “بدور” تفعل ما يحلو لها مع “لوكا”، إنه الواقع المعاش الذي يختص بلغته وتدابيره المختلفة فترى ولا تجد لها تعليلا، فقط تقبلها وتتقبلها كما هي دونما تعليل وإلا أصابك ما أصاب جدة “بدور” من لوث، وما أصاب أم سوسن وأم سعيد من خبل كاد أن يوردها مورد الهلاك ويجعلها عرضة للإغتصاب يوما ما. ثم هاهو “جرجس” يخرج على وجهة من هذا الواقع المعاش وينطلق إلى طريق يخلص به إلى القتل. إنه الواقع المعاش الذي يضغط على أعصاب الجميع ولا يريد منهم إلا قبوله وعدم تفسيره أو الثورة في وجهه.
تتجدد داخل الرواية اللفتات الذكية التي تحسها وهي تتجمع تحت سطع وعي القراءة الثانية وتحاول أن تشكل لفتات جمالية تعزز من تأثير النص الروائي في نفس المتلقي وروحه وجسده، فيرتعد من هذه اللفتات الذكية الموحية وسأضرب مثالا أو أكثر من داخل هذا المعمار الروائي الرائع وأعني به النظر إلى أعلى، وذلك عند سوسن إحدى الشخصيتين البطلتين داخل هذا العمل هي وبدور، ففي الصفحة(15) وحينما كانت سوسن تذهب إلى الكنيسة كانت تنظر إلى أعلى “أود أن أصعد إليه أنزله وأسقيه ماء وأضمد له جراحه، وأنزع عنه الشوك، وأضع مكانه عقد ياسمين وذهب. تأمرني بعدم النظر وتقول: “ستجنين”، وتسحبني من يدي الساخنتين ونمر بين الصحون المرمرية. أتركها وأتسلل إلى مقام القديسة تريزا، فتراودني الرغبة في دخول هذا التابوت الزجاجي، أستلقي، أمدد جسدي المتعب، أشعر ببردة المكان، وأقطع صمته بوجودي”. نفس هذا المطلب للراحة والوداعة التي تتمثل في النظر إلى أعلى نراها تختم به الرواية في جمال وشفافية المشهد وجلال الموقف، وكأننا حيال وحي هابط من السماء أو صاعد إليها نرى هذا في أخر مشهد من الرواية ومع نفس الشخصية “سوسن” “ربما بينهم سليم تتألم وتغادر المكان. يمر الترام بجوارها بسرعة، فيخيفها ويسقط قلبها بين عجلاته، تنحني فتلتقطه، وتسير مارة بجامع الخازندار يؤذن للعشاء، تشخص ببصرها نحو السماء، وتهمس بأمنية، وتلقي بها في السماء، فتتلقفها الملائكة، وتعرج بها إلى هناك” ملائكية في خاتمة القصة تربطنا بالسعي نحو الراحة فيما هو أعلى ولا يتركنا الكاتب دائما لدوامات الواقع المعاش بل نجد هناك السلوى في الأعلى والأقوى وتترابط الشخصيات في هذا المنحى الذي يلجأون إليه من أجل التخفيف مما هم فيه. إن السعي نحو أخذ المدد بلغة الصوفية من قوة أعلى هو سعي الشخصيات إلى مجابهة ماهي فيه. والدكتور بهاء مخلص في هذا للشخصية المصرية التي تجد السلوى والقوة الروحية في كل مايحيط به، إنه المطلب النفسي الطبيعي في مواجهة ضغط وقهر الواقع المعاش.
النصوص الدينية تأخذ تأثيراتها إلى داخل النص وأجد على سبيل المثال لا الحصر عنوان الفصل “ماء مهين” والذي يرتبط بأن الإنسان خلق من ماء مهين أي ضعيف، ونرى في تضاعيف هذا الفصل العديد من المشاهد المختلفة والتي تؤيد أن الإنسان ضعيف، حتى لو كان السادات الذي تم اغتياله ونسيه الجميع في غمرة الاحتفال بعودة سيناء، وسليم الذي تأخذه شهوته إلى أن يفرغها على شفا التخيل في زنزانته، والأم تغني “إبني حبيبي يا نور عيني”، إن سعيد ماء مهين، وفي نهاية الفصل نجد ذلك الصراع بين بدور وجرجس زوجها في محاولة منها لأن تنهي هذه الرابطة ولكن لا تنتهي ويضربها، وتتجمع الحارة عليهم ولا يحدث ماتريد. وفي هذا الفصل حوار قصير بين بدور وسوسن، تحاول فيه بدور أن تتغير تجاه سوسن ولكنها لا تلبث إلا أن تكتشف خطئها حوار قصير جميل كالطلقات. ولن أحرق الحوار وأتركك عزيزي القارئ مع الصفحة(81) لتقرأ هذا الحوار الجميل. أما النص الآخر نراه في ذلك الإقتباس من الكتاب المقدس والذي كان يقوله لوكا في حال خوفه من متابعة الشرطة سنجد هذا في الصفحة رقم(43) في جلال المشهد الروائي واستحضار الكلام المقدس نجد هذا الإقتباس والذي يأتي بعده سفر سابينا حبيبة لوكا إلى إيطاليا، والتي لن تستقيم الحياة لها كما سنرى بعد ذلك موقفان استخدم الكاتب لهما جلال الاقتباس من الكتب المقدسة، كذلك سنجد أن عنوان الفصل موحي “حائط المبكى”.
أبدع الدكتور بهاء عبد المجيد في هذه الرائعة “سانت تريزا” حينما كتب وأبدع حينما جعل الشخصيات تتكلم وتتفاعل لتعكس لنا جلال وجمال الشخصية المصرية الحقة وتناغمها المقدس الجميل في إطار من الأخذ والرد والحوار والنشوى والإحباطات وأحيانا الإقتراب من مشارف الجنون أو الهلوسة كما نرى في مثال جدة “بدور” ومثال “جرجس” ومثال “والدة سوسن وأم سعيد أخوها”.
تحية إلى الدكتور بهاء عبد المجيد حينما أبدع هذه الرائعة “سانت تريزا”، تحية له حينما سجل هذه الشخصية المصرية بعنصريها وحينما جعل مصر تصهر حتى اليهودي “لوكا”.
تحية إليك أيها المبدع وإلى لقاء آخر يضم تحليلا للبناء السردي لهذه الرائعة “سانت تريزا”.
مجلة كلمة