ملعون دوستويفسكي لعتيق رحيمي.. عدالة المجتمعات اليائسة


عبير أسبر

عندما تبتدئ فرنسا موسمها الروائي الزاخر لهذا العام، بمواضيع تتعلق بفوبيا أسلمة المجتمعات، وهواجس تحليلية لعقلية الجهادين، العقلية التي تدفعهم لخوض تجارب تطهيرية بالمعنى الوجودي، وترك بلادهم وبيوتهم والسفر إلى بلادنا وقتل كل ما لا يعجبهم فيها، فإن ذلك يدعو للسؤال عن التجارب الروائية الأخرى التي تحدثت عن أسلمة الدول ذات الدين الإسلامي أساساً كإيران، وببعد أكثر ردة وأصولية كأفغانستان، ومن ثمة محاولة الخوض في تلك التجارب في مصر، ليبيا، سوريا عبر كتّاب كثر. لكن أوروبا بعد شارل إيبدو، تكتب بجفاء، بريبة، ومباشرة فجّة، جوليان سيّودو فعلها عندما ألّف روايته الضاربة «الفرنسي» عن جهادي ذهب ليقاتل في سوريا، وهذا طبعاً بعد الموضة الأدبية التي أحدثتها رواية ميشال ويلبيك «استسلام» التي ناقشت تحت بند الخيال السياسي، الإمكانية المرعبة، لوصول رئيس مسلم إلى الإليزيه.

في شكل غير مباشر، وبعيداً عن هذا يكتب عتيق رحيمي، الكاتب الأفغاني رواية ملعون دستويفسكي، نحن في أفغانستان بعد الخروج المباشر للسوفيات «الكفار» واستشراء حركات التكفيريين وانقسامهم حول غنائم المجتمع، من فوضى وحشيش، أمراء الحرب والدين يتحرّكون على بساط الأحداث التي فرشها رحيمي، بناء على الحكاية الشهيرة للجريمة والعقاب، رواية دستويفسكي التي لعنت «رسول» الأفغاني ذا الثقافة الروسية، الذي تلوى محترقاً بين ثقافتين، ودولتين يحكي عن القصاص.
ملعون دستويفسكي، رواية عن قاتل، قتل ببلطة قوّادة عجوزاً، استغلت خطيبته «صوفيا» وقدّمت خدمات «داعرة» لأمراء الحرب الجدد. تعيرهم الفتيات، وتقبض مجوهراتهم ثمناً، في بلد يطفو في غيوم من الحشيش.
مثل بطله الأثير راسكولنيكوف، فإن رسول يُعذّب بحمّاه ومونولوغاته، حول الضمير، والذنب والخطيئة، متسائلاً عن الجدوى والمعنى، وكيفية تحقيق العدالة الفردية والمجتمعية، لكن شتان بين المزاج الوجودي الذي تمتع بمناقشته دستويفسكي، ورفاهية العقل البارد للمجتمعات الساكنة، الصلدة التي ملكتها روسيا مرة، وبين الآنية للحاضر الأفغاني الصاخب ببؤسه وعنفه، المتخبّط بفضلات شيوعية المنشأ، ونموذجات مرتبكة لمجتمع النقاء الطهراني الإسلاموي، الذي قدّم ذاته ـ وللسخرية ـ برعاية أميركية أولاً.
تحضر السياسة بشكلها النابض، لكنها تنزاح لمصلحة الأدب والحكاية. عتيق رحيمي، روائي يكتب كسينمائي، مخلصاً للتشويق، وللأفعال متعدّدة المستويات، إذ يحقق في أحد مراكز الأمن محقق ملول مع رسول، بينما ينظف ويلعن البقايا العالقة بين أسنانه. ويشتهي زوجة جاره، بينما يتساءل عن معشوقته صوفيا «حبّه العفيف» الذي لم يقبل له فماً.
اللعنة في الرواية، أن لا اعتراف، ولا قناعة بأن ما ارتكبه «رسول» هو أصلاً جريمة، فيدوخ البطل في دوامات من العنف، والقتل المجاني ذات إطار تكفيري يتبنّاه المجتمع المتأسلم كبديل عن شكل الدولة المتهاوي، ما يجري يُحبِط متعته الفذة في ممارسة الانتقائية الثقافية، الذي منحه إياه قتل عجوز نكدة شمطاء من أجل لا شيء، من دون هدف، من دون مكاسب، إلا مكاسب التأمل والندم!
في ملعون ديستوفسكي، يفقد البطل صوته عند أولى اللحظات الروائية الهامة، يخرس تماماً، واللاحكي ينجيه من أفكاره المهرطقة، وعلى العكس من بطل الجريمة والعقاب الذي تمتع بإمكانيات باذخة من سرد لا ينتهي، وشروحات فلسفية رفيعة، فإن اقتضاب رسول مثير للريبة، وللقهر. الأخرس المقموع، لا يتكلم إلا للاعتراف بجريمته، من دون دفاع ملائم عن نيات المثقف رفيع الذائقة الذي كانه.
لِمَ يكرر «رسول» بطل «ملعون ديستوفسكي» حكاية راسكولنيكوف، لأن عتيق رحيمي يعتقد أن الجريمة والعقاب لا تصلحان إلا للمجتمعات الصوفية، مثل أفغانستان، يجب أن يطلع عليها الكل، يجب أن يختبروا قسوة الانتقام الفردي، تعذيب الضمير، الندم، حتى لا يكرروا أفعال الإبادة والإقصاء، والعين بالعين التي ستجعل الكل عمياناً. قانون العدالة الفردية الساري في مجتمعات فقدت ثقتها بكل نتاجات المجتمعات الحديثة، يجب أن تتوقف عن صدمتها ويأسها بالحداثة، يجب أن تتوقف الردة والتصرف تحت تأثير رد الفعل، الأسلمة هنا ليست مؤامرة من الكون، كما هي عند الكتاب الفرنسيين، هي عدالة ليست إلهية، بل منطقية للمجتمعات اليائسة من العدالة بشكلها الحداثي، فتبنت القدرية كمنهج.
أفغانستان في رواية عتيق رحيمي هي بلداننا المتهالكة، هي ذلك الكائن الأسطوري الهجين الذي يُدعى في ثقافتهم «شتر مورغ» نصفه طير ونصفه جمل، إن طلبوا منه الطيران، قال إنه جمل، وإن طالبوه أن يحمل حملاً، قال: إنه طير لا يقوى على الأحمال.
السفير

شاهد أيضاً

فصل من سيرة عبد الجبار الرفاعي

(ثقافات)                       الكاتب إنسان مُتبرع للبشرية …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *