السيد حسين
يرى الروائي المغربي زكريا أبو مارية الفائز بجائزة كتارا 2015 أن الإبداع المغربي يسير في طريق التعافي الكامل ولم تعد الصورة قاتمة كما كانت قبل سنوات. ثمة تجل واضح لمحبة أن يكون المغرب بخير ونحتاج دوماً إلى وقت وصبر وتعاون، وإلى أن يكون الصراع إيجابياً بين الأجيال.
ويضيف أبو مارية في حواره مع «الجريدة» أن الإبداع الأدبي تجاوز بأشواط كبيرة الحركة النقدية كمّاً وكيفاً، لأن النقد أصبح مكرراً، وضيقاً يكتفي بتجارب دون غيرها تحددها صلات معينة، أو نوع ومستوى انتشار معينان تخدم مواكبتهما وليس العكس.
كيف استقبلت إعلان فوزك بجائزة كتارا للرواية 2015؟
بأقل كثيراً من الفرح الذي فرحه الآخرون لي. كنت في فترة فقْد وحداد، فبعد شرارة الفرح التي اقتدحها الخبر بداخلي عاد بسرعة الأخير ليكون محزناً عندما تذكرت أن بعض الأحبة لن يشاركوني فرحي.
هل وضع الفوز على كاهلك مسؤولية أكبر، خصوصاً في أعمالك المقبلة؟
يبقى أوسع باب تسمح لك جائزة أدبية كبيرة أن تطرقه مفتوحاً على الجحيم. تصبح انتظارات الآخر منك أكبر، ويعلو أكثر سقف التوقعات بخصوص عملك الفائز نفسه وكتاباتك المقبلة. لكن هذا الصدي في حد ذاته هو ما سيسمح بأن تفقد الكثير من هذا الوزن الزائد ليكون بإمكانك أخيراً أن تهرب عبر الكوة الخلفية الصغيرة المفتوحة على الجنة.
تفهم أخيراً أن ما عليك القيام به هو الاستفادة من الدفعة التي منحتك إياها الجائزة لتصل إلى أنواع قراءات أخرى تحافظ بفضلها على توازنك في حال أصبحت كتاباتك مستقبلا بنوعيات جديدة.
حدثنا عن روايتك الفائزة بالجائزة {مزامير الرحيل والعودة}؟
تحدثت عنها إلى الآن في أكثر من منبر، وكنت أقول عنها في كل مرة أمراً مختلفاً، ذلك أنها تدور حول أكثر من حدث، داخل حيز زمني يمتد على مساحة نصف قرن، ولا يمكن اختصارها في موجز صغير.
أظن أن من الأفضل ربما أن أختصكم بمقتطف منها لا يحرقها ويفتح الشهية لقراءتها: توقعت للحقيقة أن يكون الغبار منتشراً في كل مكان، ولم يفاجئني أن طبقة خفيفة منه كانت تغطي الحامل النصف دائري الرخامي الأسود لمرآة البهو الجدارية، ولا كان ذلك ما استوقفني عندما مررت بها بعد أن أنرت المصباح وتقدمت لبعض الخطوات الأخرى نحو الداخل، وإنما صورة وجهي، عكسته المرآة بنفس الشرخ القطري الذي كان يتوسطها، ودفعتني إلى الإحساس بعدائها القديم نحوي، حين أرادت والدتي منعي يوم مجزرة السين الشهيرة من الخروج مع المحتجين لأسبابي الملحة آنذاك وأعلنت أنا في وجهها تمردي وعصياني فشقتها بضربة من قبضتها إلى نصفين، ليتحول انعكاسي فيها فور ذاك إلى وجهي المقابل المؤنب، جلادي ومعاقبي، ليس على الجرح العميق الذي أصاب يد والدتي وقلب جون لعلمهما بنيتي ترك فرنسا، ولكن على فكرة هروبي في حد ذاتها، فكرتي التي كان لحادث السين كلمته الأخيرة كي أصر عليها وأجعل منها قراراً نفذته من فوري بعد أن ترددت لزمن بخصوصها… حادث السين؟ كان مجزرة ما حصل، وكان السين الشريك أيضاً برغمه فيها، أجهزت أعماقه على أغلب من تم تقديمهم له أحياءَ وكأنهم قرابين كانت تضمن قوات موريس بابون أن يستمر بفضلها الخصب لفرنسا، ولكن لأمر ما فيهم عصيّ على الماء العذب تخلص السين من جثثهم في البحر، ومني أيضاً، لكن أبعد من ذلك بكثير، بعيداً جداً ما وراء آلاف الأميال الأخرى من الماء المالح.
ماذا عن أعمالك المسرحية مثل {حالة حصار} ومسرحية {موسم العودة من الشمال}، وكيف ترى حالة المسرح العربي حالياً؟
تكاد تصبح للأسف الشديد قراءة النص المسرحي حكراً على كتابه وعلى محوليه إلى عرض وفرجة، ربما لأن زمن القراءة هو لأمر ما حالياً زمن رواية، مما لا يعني طبعاً أن النص المسرحي لم يعد بجدوى ويمكن التخلي عنه، سيبقى مثله مثل النص الشعري أمانة تحرم خيانتها، وسأعمل ما أمكنني كي لا أكون شريكاً في هذا الإثم.
النقد في المغرب، هل هو بمستوى الحركة الأدبية؟ وهل من تجارب نقدية رافقت تجربتك الأدبية؟
تجاوز الإبداع الأدبي بأشواط كبيرة نقده، كمّاً وكيفاً، فأصبح متكرراً، وضيقاً يكتفي بتجارب دون غيرها تحددها صلات معينة، أو نوع ومستوى انتشار معينان تخدم مواكبتهما النقد وليس العكس. ثمة دعوة من نقاد كبار لتبني أنواع نقد جديدة لها نفس اتجاه وسرعة الإبداع الأدبي الحالي، وأتمنى أن تحظى أعمالي بفرصة دخول هذه المختبرات الحديثة يوم يتم إنشاؤها.
ماذا عن العلاقة بين الفعلين السياسي والثقافي، والدور التحريضي الممكن للأدب؟
في الأدب {فلتات} غيَّرت وجه العالم، ولكن لا يدري أحد متى أو أين أو كيف قد يكون أدبه بهذه القدرة الاستثنائية على التغيير، لذلك فهو يكتب بغير أدنى نية أو أمل من هذا القبيل، ولكنه يراكم مع آخرين ما يمكن أن يؤثر مع مرور الوقت في صيرورة الأشياء من حولنا، مع مرور وقت طويل للأسف، لأن الأدب لا يصيح كالسياسة، وليس محتالا مثلها.
أمام هذا الكم المتلاحق من الهزائم العربية هل يمكن أن تنتج الرواية بطلاً يحمل انتصاراً مقبلاً أو يبشر على أقل تقدير بمستقبل أفضل؟
على هذا البطل أن يكون متواصلاً يكتبه الجميع الآن وجيلا بعد جيل، وغير مبالغ فيه كي نصدقه، وأن ينتشر على أوسع نطاق عربي ويصل إلى مكوننا البشري الأكبر والأساس الذي تعمل أياد خبيرة خفية كي لا يقرأ، ليظل بطلنا إن وجد بطلا من ورق.
هل نحن نعيش زمن الرواية؟ وهل تركز أنظارك على الرواية والكتابة المسرحية فقط؟
لو دام الشعر للقصيدة العمودية لما وصل لقصيدة النثر، وهذه ثورة تغيير داخلية قام بها الشعراء أنفسهم على نوع تكلمهم، فما بالك بغيرهم من خارج بيتهم، الزمن زمن رواية بإرادة جمعية لا يمكن تفسيرها إلى أن يتقرر بطريقة ما غير ذلك، وإلى ذلك الحين سيظل للشعر وللمسرح ولغيرهما حراس كثر أوفياء لا أتخوف بوجودهم من تحمل أية مسؤولية تقصيرية إذا ما اكتفيت بتركيزي الحالي على الكتابة المسرحية إلى جانب الرواية.
حصلت على جوائز أدبية عدة. إزاء تهافت معظم الأعمال علىالجوائز الأدبية العربية شكك كثيرون في نزاهتها وفي حياد لجان تحكيمها، وهو تشكيك يجعلنا نتساءل عن جدوى الجوائز بالنسبة إلى المبدع؟
الأزمة قديمة وكبيرة وشاملة، توارثناها جيلاً عن آخر، ووشمها فينا للأسف الذين من المفترض أنهم حماتنا وحراسنا، ولن تعود الثقة المفقودة بسهولة بين عشية وضحاها، ولا خلُقا إحسان الظن والتماس الأعذار نحو مبادرات صادقة لها هفواتها الطبيعية البشرية بالنسبة إلى الجوائز الأدبية لا يمكن لكل من يخوض غمارها أن يكون فائزاً حتى مع استحقاقه ربما للفوز، من دون أن تكون بالضرورة للأمر علاقة بعدم النزاهة وعدم الحياد، ولا بد من أن أموراً أخرى في {مزامير الرحيل والعودة} هي ما حددني فائزا بـ{كتارا} مثلا. وأرجو أن ينتظر المشككون حتى قراءتها لإصدار أحكامهم بخصوص استحقاقها. أن تفتح الجائزة أمام العمل ما أغلقته ظروف أخرى من أبواب، هو في حد ذاته جدوى الجائزة بالنسبة إلي. أقصد تأمين تلك العلاقة العسيرة بالقارئ الذي لا أظنه ينشغل كثيراً بصلة العمل الأدبي الذي بين يديه بالجائزة بقدر انشغال كتاب شاركوا ولم يفوزوا.
الجريدة