أبواب الغربة


*هدية حسين

وأخيراً قررت العمة أن تحزم حقائبها وتعود الى وطنها بعد طول غربة. إحدى صديقاتها العائدات أخبرتها أنها وجدت نفسها أخيراً بين أحضان العائلة ولن تعود إلى أميركا، لم يدر في خلد العمة أن الوضع مختلف معها، وأن أبواباً كثيرة ستنفتح لغربة لم تعرفها من قبل نظراً لطول منفاها، فالصغار الذين تركتهم أصبحوا رجالاً، والشباب شاخوا، والشيوخ إما غادروا الحياة وإما أصبحوا في أرذل العمر.. أحاط بها كثيرون لم تعرفهم من قبل: هذه «وسن»، وهذا «حيدر»، وذاك «مراد»، وهذه «غادة»، وهذا «واثق»، و.. و..

«سلمان»، الأخ الوحيد للعمة، لم تبقَ شعرة سوداء في رأسه، يبدو متجهماً طوال الوقت. كادت الدموع تطفر من عينيها عندما رأته على كرسي مدَوْلَب رغم علمها مسبقاً أن ساقيه بُترتا بانفجار. «محمود» ابن أخيها الذي تركته طفلاً، أصبح رجلاً بقامة طويلة وشارب لا يتناسب ونحافة جسده، تزوج وخلّف ثلاثة أولاد وبنتاً. و «حسن» ابن عمها الذي كان مثل قصبة، صار سميناً وانحسر رأس شعره مُشكّلاً صلعة تبرق تحت الضوء، ولولا أنه عرّف بنفسه لما عرفته. و «أحلام» ابنة أخيها التي كانت منذ صغرها ترتدي الملابس القصيرة وتحلم أن تكون ممثلة، ها هي مجللة بجبة وحجاب، وزوجها بلحية وشارب كث مصبوغ والمسبحة لا تفارق أصابع يديه، يحدج العمة بغير ارتياح، وحين يختلي بزوجته يتهكّم: «لم تخبريني قبل ذلك أن عمتك متأمركة إلى هذا الحد»، ترد وهي تبلع خيبتها بالعمة: «لكنها طيبة، هل تذكر الحوالات التي كانت ترسلها عندما كنتَ عاطلاً؟»، يجيبها بحنق: «الله الغني، لو كنت أعرف ما عليه عمتك لأكلت الحجارة.. كم ستبقى هنا؟»، تداري أحلام غصتها وتقول: «لا أدري».

العيون كلها تنفتح وتترقب حين تفتح العمة إحدى الحقائب، فلعلها ستُخرج الهدايا التي ينتظرونها، وبعد يومين من الانتظار نطقت العمة فتعلقوا بشفاهها: «اعذروني، الله يحفظكم أنتم كثر، وإذا أردت شراء هدايا لكم جميعاً فسأحتاج إلى سحب ثلاث حقائب إضافية، تعرفون أنني أعاني من التهاب المفاصل وتمزق في عضلات اليد». تنكمش ملامحهم، وتأتي كلمات المجاملة بعدها جافة والابتسامات أقرب إلى العبوس، وما إن تردف: «ستكون هداياكم نقوداً، اشتروا بها ما يعجبكم»، حتى تنفرج الشفاه بانتظار تلك النقود، لكن الصبايا اللواتي لم تتعرف إليهن العمة من قبل لا يخفين مشاعر الخيبة، فلقد كن يحلمن بهدايا «أميركانية»، لا تشبه ما موجود في الأسواق المحلية.
زوج»أحلام» الملتحي، لم يستطع هضم ما تقوله العمة، فغادر المكان ممتعضاً، تبعته نظرات زوجته التي شعرت بالخجل، فلقد ظلت طوال شهر تحدّثه عما ستجلبه لهم العمة من أميركا، و «محمود» النحيف يهم بكلام، لكن رنات «الموبايل» توقف شفتيه، وما إن جاءه الصوت من الطرف الآخر حتى هبّ واقفاً وراح يحوقل ويتعوّذ ثم خرج.. عيون العمة تتنقل بين الوجوه، وأخوها «سلمان» لزم غرفته ولم يخرج منها منذ أن وصلت أخته من منفاها، وها هو صوته المتبرم ينادي على زوجته: «سليمة، يا سليمة، الله يلعن الساعة التي عرفتك فيها». تهرع «سليمة» إليه، بينما تواصل العمة قراءة الملامح وتشعر كم تغيرت الدنيا. حتى أخوها لم يبدِ أي تعاطف معها، وشعرت بالإحراج عندما جثت أمام مرأى الجميع عند كرسيه، كان في الصالة عندما وصلت، مط شفتيه وتمتم بكلمات لم تصلها لكن تشي بمعناها، جللتها الحيرة وهي بين الجميع؟ «سليمة» زوجة أخيها شعرت هي الأخرى بالإحراج من موقف زوجها وهمست لها: «لا عليك، مرضه جعله لا يقيم وزناً لكل شيء، احسبيها عليّ». وجاء صوته حاداً وهو يحرك كرسيه نحو الخارج: «سليمة، لماذا تأتي الأميركانية إلى بيتنا؟». حاولت «سليمة» أن تتدارك ما قاله فهمست له: «عيب، هذه أختك»، لكنه صاح بأعلى صوته: «أختي ماتت من زمان».

* * *
في الغرفة المجاورة تحاول أحلام تهدئة زوجها الممتعض: «كلها كم يوم وستعود»، فيرد عليها: «ماذا يقول الناس عني، أنا مؤذن وقريبة زوجتي تلبس بنطلون؟ إذا كانت النساء ترتدي البناطيل فهل على الرجال أن يلبسوا التنورات؟». ليس ثمة جدران عازلة للصوت، ولذلك يصل حوار ابنة أخيها مع زوجها، ويسمعه كل من في البيت، فتداري العمة شعورها عن الصغار المتحلقين حولها بابتسامات لا تلبث أن تزول، ولمّا لا يمكنها أن تعيد الابتسامات إلى شفتيها فإنها تخطو نحو الخارج.
* * *
الهواء حار، والشمس متعامدة، والطرق وعرة، والحواجز تشق قلوب الشوارع.. ترفع يدها وتشير إلى سيارة أجرة.. تقول للسائق: 
– خذني في جولة لأماكن سأحددها لك..
يستغرب السائق المتصبب عرَقاً ويسألها: 
– إلى أين بالضبط؟ 
– خذني إلى الأعظمية أولاً، ومنها اعبر جسر الأئمة، وسر موازاة نهر دجلة حتى تصل جسر الصرافية.. عندي ذكريات هناك.
تنطلق السيارة وما يزال السائق مستغرباً، إذ لم يحدث لراكب أن طلب منه طلباً كهذا، فيسألها:
– ذكريات؟ وأين كنت عنها؟
لم تشأ أن تقول له في أميركا، تخشى الجهر بالأمر، فتردّ: 
– كنت فقدتُ ذاكرتي سنين طويلة والآن عادت لي وأريد أن أرى بعض الأماكن.
يبتسم السائق ويقول: 
– شيء رائع أن يفقد الإنسان ذاكرته، والأروع أن يفقدها الى الأبد فلا تعود تجرحنا، هل عرفت بما حلّ بالبلد خلال السنوات التي فقدت فيها ذاكرتك؟
تعرف العمة كل شيء حتى من دون أن يحكي لها أحد، فهي دائمة الاطلاع من خلال وسائل الاتصالات والمكالمات التي تجريها مع الأهل، وبالتالي فهي لا تريد أن تسمع المزيد من العذابات فترد: 
– عرفت كل شيء من أهلي وأقاربي وجيراني.
يقف السائق في طابور ريثما تسمح له «السيطرة» بمواصلة السير، تمر الدقائق كأنها ساعات ممطوطة في الحر اللاهب، اعتذر السائق عن عطل المكيف فردت عليه: «لا عليك»، وقال إن درجة الحرارة اليوم هي الجحيم، قالت في داخلها: «جحيم الغربة أقسى من أي جحيم»، بينما جندي «السيطرة» يواصل مهمته ويشير بيده للسيارات أن تقف.. وبعد إجراء اللازم تحركت السيارة باتجاه الأعظمية، ومرت بشوارع كثيرةِ المطبات والحواجز الكونكريتية، وعين العمة تلتقط ما تراه.. رأت قصوراً فخمة لم تكن قائمة على أيامها، وأبنية قديمة ومهجورة، وأخرى مهدمة. 
توجه السائق الى جسر الأئمة، وأراد أن يسرد لها تفاصيل الكارثة التي أودت بألف شخص غرقاً وتدافعاً من على هذا الجسر بعمل إرهابي، لكنها لم تدعه يسترسل فقالت: 
– أعرف، لا تذكي النار في قلبي الموجوع.
وحينما وصل إلى نهاية الجسر استدار باتجاه حديقة 14 تموز، وقبل أن يمضي الى الشارع الموازي لنهر دجلة سمعها تقول: 
– توقَّف هنا.
أنزلت زجاج النافذة إلى آخره لتتأمل المكان بصمت، فيما رحلت عيناها إلى أيام غابرة، لم يشأ السائق كسر صمتها، كان يراقبها من خلال المرآة وينتظر عودتها من تلك الأيام، وبعد وقت بدا له ثقيلاً قالت له: 
– والآن واصل طريقك.
فضول السائق دفعه للسؤال: 
– أكيد كانت لك ذكريات عزيزة على قلبك في هذه الحديقة.
ردت عليه: 
– بلى، كانت لي ذكريات لكنها بعُدت كثيراً. 
تمادى السائق: 
– هل هي ذكريات عاطفية، فهذه الحديقة كانت ملتقى العشاق. 
قالت كأنها تكمل إجابتها السابقة: 
– .. كنت ألتقي حبيبي فيها. 
– وأين هو الآن؟ 
– مات.
تعرف أنه لم يمت، وأنه ما يزال متوهجاً في أعماقها، لكن من شأن جواب كهذا أن يغلق الباب أمام جراح متيبسة لا تريد لها الاندمال، ولا تريد أن ترى ذلك الحبيب بعد طول غياب لئلا يكون من ضمن الخسارات أيضاً، تخشى أن يكون هو الآخر قد تغير.. «سيطرات» عدة تجاوزتها السيارة قبل أن تصل الى جسر الصرافية، وكانت جميعها تجري ما أجرته «السيطرة» الأولى.. وخلال فترة الانتظار يظلان صامتين، هو يفكر بكل ما قالت، وهي ترنو الى الشوارع وتذكي آخر الجمرات من ذكرياتها، وتفكر بأمر عائلتها.. أبداً لم يكن هذا البيت هو نفسه بيت العائلة الذي تربّت بين جدرانه، ولا أولئك هم أهلها.. سبعة أيام كافية لتدرك أنها طارئة وغريبة على هذه العائلة..
انتبهت إلى صوت السائق الذي قطع استرسالها بسؤال: 
– ماذا بعد الجسر؟
قالت له بعد أن نفضت عن رأسها بقايا الصور: 
– خذ يميناً ثم يساراً موازاة النهر.. من هنا.. انعطف يميناً.. لا، ارجع قليلاً الى الوراء.. أظنني تهت عن بيت صديقتي.
لم تجد البيت في المكان الذي كان بيتَ صديقتها التي سبقتها بالعودة، ولم يكن معها رقم هاتفها بعد أن نسيت دفتر الأرقام في بيتها بأميركا، أحسّت بكثافة الغربة وكادت تسقط في البكاء، إلا أنها تماسكت وأمسكت بزمام أمرها لتقول:
– هذا يكفي، أعدني من حيث أتيت وانتظرني قليلاً ريثما أحمل حقائبي، ستأخذني إلى المطار.
_____________
* كاتبة عراقية مقيمة في كندا
ملحق الرأي الثقافي

شاهد أيضاً

طه درويش: أَتكونُ الكِتابَة فِردَوْسَاً مِنَ الأَوْهامْ؟!

(ثقافات) طه درويش: أَتكونُ الكِتابَة فِردَوْسَاً مِنَ الأَوْهامْ؟! إلى يحيى القيسي لَمْ نَلْتَقِ في “لندن”.. …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *