محمد الأسعد
لأي رواية طابعها الخاص، ليس بتأثير كاتبها ومستواه الثقافي فقط، بل، وهذا هو الأبرز، بتأثير ثقافة الأمة التي ظهرت هذه الرواية في لغتها. لأسمِّ هذا الطابع انعكاساً يشبه انعكاس المرئيات على صفحة مياه بحيرة أو نهر، أو لأسمِّه صدى إيقاع يسري في هذه الثقافة، وينتشر بالإضافة إلى طريقة السرد، في طريقة بناء البيوت وإقامة الاحتفالات وطقوس إعداد موائد الطعام، وفي ما لا يحصى من أنشطة فنية وغير فنية.
لمستُ هذا الإيقاع عدة مرات، وأنا أقرأ روايات من مختلف اللغات، وأنا أصغي لطرائق السرد والنقاش الشفاهية، ولكنني لم أحسبه شيئاً آخر غير تفرّد راوية ما بأسلوب أو منحى في القول، إلا حديثاً وأنا أقرأ رواية “الأخوات ماكيوكا” للياباني جونشيرو تانيزاكي الشهير بمقالة “في مديح الظلال” التي لا تزال تمثل بطرائق وصور شتى في الأوساط الثقافية حتى الآن، وفي عدة لغات هنا وهناك بعد مرور أكثر من ثمانين عاماً على نشرها لأول مرة في العام 1933؛ هنا بدأت أتلمس إيقاعاً خاصاً تجري الأحداثُ والحواراتُ وترتسم ملامحُ الشخصيات وفق مسافاته الصوتية أو مقاماته.
لكل ثقافة مقاماتها الصوتية. وتذكرتُ الروايات الروسية، ما تسلسل منها على شكل ملاحم بدءاً من ملحمة “الإخوة كارامازوف” لديستويفسكي، ومروراً بملحمة “دكتور زيفاجو” لباسترناك، وصولاً إلى “الدون يجري هادئاً” لشولوخوف. وأعدت اكتشاف إيقاعها المختلف اختلافاً كبيراً عن إيقاع الروايات اليابانية، وخاصة تلك التي كتبها كاواباتا وميشيما، والمختلف عن إيقاع الرواية الإنجليزية التي بلغت ذروتها مع ديكنز وأوستن، قبل أن تواصل الصعود وتبدأ مرحلة مختلفة مع مقامات جديدة يبتكرها جيمس جويس وفرجينيا وولف.
لم أنس بالطبع الرواية الفرنسية الملحمية التي استعادت بتفاصيل مسهبة زمناً يكاد يكون لانهائياً على يد بروست، ولم أتجاهل روايات أميركا اللاتينية التي حوّلها كتّاب من أمثال ماركيز صاحب “مائة عام من العزلة” وأستورياس صاحب “الهاخاديتو” إلى شعر خالص يجري مثلما تجري الأنهار الريفية ببساطة وعمق.
القائمة تطول عند تعداد تنوّع أساليب أو مقامات السرد بين ثقافة وأخرى، والتنقّل من قارة إلى أخرى، ولذا من الأفضل اختصار ما لمسته والهدف من كتابته؛ والقول إن هذا التقاطع بين المقامات الموسيقية والسرد الروائي يمنح النقد والنقاد، المتذوقين أيضاً، هواة الفن القصصي، نافذة جديد تطل على حديقة لم تألفها كثير من الروايات العربية التي لا تفكر حتى الآن إلا في المفكَّر فيه.
رواية تانيزاكي أثارت في ذهني فكرة خصوصية الإيقاع الثقافي، وخصوصاً حين يتحكّم في السرد وزمنه، كأنه يحوّل الرواية إلى كلمات أغنية تتردّد وفق مقام ذي مسافات صوتية، تشارك في عزفه آلات مختلفة باختلاف الجغرافيات. هنا تجد الأساس آلة “الكوتو” اليابانية، أما هناك فستجد “الماراكاس” اللاتينية أو “البالالايكا” الروسية أو البيانو الإيطالي، ولن تعدم بالطبع وجود العود العربي أو السنتوري اليوناني يؤلف كازانتزاكيس رواياته على إيقاعه.
العربي الجديد