عمار الشقيري
(ثقافات)
” أبكيتني مرّتين، يا محمود. مرّة حين رميتَ على عاهن البسيط كلماتٍ لم أصدّق أذنيَّ أنني أسمعها. قلتَ، بالإنكليزية، في ندوة جمعتنا بإحدى مدن أسوج: “بذلتُ جهداً كي لا أتاثر بسليم بركات. وإذ صدّقتُ أذنيَّ، اغرورقت عيناي، بل بكيت صامتاً: جليلٌ مثلُك، ضمّ عصراً أدبياً إلى ظلّه، لا يحذر اعترافَه العابرَ، الذي يُبكي مثلي “
سليم بركات/ تأخرت يا محمود
النهار 8 ديسمبر 2008
ـــــــــــــــــــــــــ
حين تفرد الحروبُ أذرعها معلنةً أن لا نجاة إلّا بما ترميه الصدفةُ – عبثاً – على الأحياء تصير الهجرات صلاةً للنجاةِ لا من الموت إنمّا من طريقته الفجة في العمل , فالهجرات موتٌ لكن بفرق نافر وهو أن المهاجر يتجرعها ببطئ على مراحل , وإذ كان للشعراء من كلامٍ عن الحروب – حليفة الهجرات مذ فجر التاريخ – فإن هذا الكلامَ سينحى منحى الإهتمام بالتفاصيل الدقيقة والبسيطة وإعلاء الهامشيّ فيها إلى منصة الرئيسيّ , كأن تكون شجرة اللوز العادية – مثلاً – دليل الشاعر لتتبع الهشاشة في قلبهِ والحياة , ويصير ظل شجرة خروب على قارعة مقهى في قبرص مدخلاً لحكاية سيرة شعب .
والمنفيّ نديم المنفيّ في دروب الهجرات , يؤنسه بالحكاية مرةً , ومرةً بالقصيدة :
– تعال أنبئكَ عمّا فعله الجنرال بأهلي
فيقطع عليه الكردي حكايتهُ
– تعال أنتَ أنبئك ما فعله الجنرال بالجغرافيا وبأهلها
وتحتَ وقع الحكايا , يسحب ليلُ المهاجر خصائصهُ وينصت , للحكاية , وللقصيدة , وللوحة ,والموسيقى وللفن بشكل عام
محمود درويش و سليم بركات , الأول هاجت خيل الحرب على بلادهِ في الجنوب فهاجر وأنشدَ “شمألتُ ، شرَّقتُ ، غَرَّبتُ أما الجنوب فكان قصياً عصيّاً عليَّ لأن الجنوب بلادي” , الثاني من شمالٍ – على غير العادة الجيوسياسية – معذبٌ ومهمّش , من عقد قرى كرديةٍ
تخون الجغرافيا شعرائها , فتلجأ القصيدة إلى اللغة , ليبني فيها الشاعر , بيتهُ وحديقتهُ والتواليت , والمطبخ وغرفة نومه والسرير ,ويقول قبيل النوم ” سأحلم
ربٌما اتسعتْ بلاد لي ، كما أنا
واحدا من أهل هذا البحر ،
كفٌ عن السؤال الصعب : منْ أنا ؟ “
هاهنا ؟
سؤال الإنتساب ( منْ أنا ؟ )
في زمن الإقصاء والديكتاتوريات التي استبدلت الدبابة – لفترة مؤقتة – بالمقص الإلغائي سيتحسس الفردُ لغتهُ , تراثه , وكيانه , سيتحسس وجلاً هويتهُ , وإن كانَ الإحتلال الصهويني قد بدأ يحاول إقصاء العربي من فلسطين فإن النظام السوري قد بدأ إجراء دفن للقرى الكردية التي ” أقصتها الدولة عن تاريخ الدولة ”
سيظهر درويش صارخاً من فلسطين :
” سجل أنا عربيّ ” مع أن هذا الإنتماء سيتحول إلى إنتماء آخر بعد قليل , وسيصرخ الكردي من جهتهِ في قصائده الأولى مرتلاً أسماء القرى ويعيد الترتيل وكأنه يخاف على أسمائها من الإندثار:
” دينوكا بريفا , موسيسانا , مهاباد التي لم ترَ النور ”
العشب ينمو في الحرب
بيروت / أوائل سبعينيات القرن الماضي / لا لغة غير لغة المدفع والرشاش , وأمراء الحرب في سباق محمومٍ لقتل كمٍ أكبر من الطرف الآخر , والمدينة الحائرة بين الماء واليابسة تشتعل , وتربيّ بين الرماد علاقات حب وصداقة في الخفاء , كانت إحدى هذه الصداقات التي جمعت بركات بمحمود درويش لأول مرة وكانت بين قذيفتين , يسأل درويش عن الفتى الكردي بعد سقوط قذيفة في شارعٍ فرعي :
* ” أين ( س ) ديك الحي الفصيح ؟ عاشق المسدسات واللغة واللحم المعلن , لم أره منذ يومين ؟ هل وجد طعاماً وماء , كان هذا هاجسي ومنذ تبنيته كان نادراً ما يتكلم معي حين نكون وحيدين فلعلّه صدّق أني أبوه , ترك الحي الذي كان يسكنه قبل الحصار وجاء إلى هنا ليقيم مع شاب لبناني سرياني الأصل .
أين السرياني , وأين الكردي ؟ تصادقا منذ اليوم الأول للحصار , أحدهما متوتر كعضلة وثانيهما بارد كقمر “
” أحببت س منذ إلتقيته من سنين , مستنفراً ضد مجهول , يخجل من الكلام ولا يتدخّل فيه إلّا ليتوتر , حاسم وصارم لايساوم على شيئ أو رأي , لا يقول إلّا للورق الموضوع على وسادة ما فيه من عالم عجائبي , فنتازي , ومترع بالفصاحة , ولا أعرف حتى الآن متى يبدأ فيه الروائي السارد ومتى ينتهي الشاعر ” .
*ذاكرة للنسيان / درويش 46
الخروج برفقة الكرمل إلى قبرص
بعد الإجتياح الإسرائيلي لبيروت يحمل كل من الشاعرين أوراقهُ ويلتقيا في قبرص لتحريك دفة مجلة الكرمل من جديد والتي أصر الزعيم الفلسطيني عرفات على مواصلة إصدارها , وصدرت “الكرمل” من قبرص رغم العوائق الكثيرة , درويش كمحرر رئيسي لها من باريس و” معاونه الكبير ” على حد تعبيرهِ : الشاعر سليم بركات
في قبرص سيؤمن الإثنان هذه المرة بسلطة المنفى وجبروتهِ , آمنا مجبرين , تحت السياط فإشتعل سؤال الهوية من جديد , لكن بشكل مختلف :
– من أنا ؟
سؤالٌ طنان لا ينبتُ في رأس المنفيّ إلّا حين يعتاد المنفى , قبلها سيكون المنفيّ مشغولاً بترويض محيطهِ أو ترويض قلبهِ للتأقلم مع المحيط
يجيب درويش شعراً في أكثر من مكان بعدما يكون قد تخلص من ” سجل أنا عربي ” سيجيب هذه المرة وبهدوء معلن عن سؤال الهوية : (( أنا لغتي )) ويذهب في موضع آخر من قصيدة قافية من أجل المعلقات أبعدَ من ذلكَ ليعلن (( من لغتي ولدت
على طريق الهند بين قبيلتين صغيرتين عليهما
قمر الديانات القديمة, والسلام المستحيل))
ولن يختلف الإنتساب عند سليم بركات عنه عند محمود درويش – مع أن منفى هذا الآخير هو منفى مزودج : منفى لغته الأم , ومنفى الجغرافيا – ففي مقابلة مع قناة الجزيرة لبرنامج موعد في المهجر , بدا على وجه الشاعر الكردي الإتزان وهو يقول بلهجته العامية (( وطني الحقيقي هي لغتي , ما بئا إئدر أشوف حدود أكتر منها , ولا علاقات أكبر منها , ولا حرية أكتر , انا عايش هناك , ومستقل هناك بقوانين العربية
وفي قصيدة ” ليس للكردي إلّا الريح ” المهداة إلى بركات يعرف درويش كيف يصف الكردي بعين المنفيّ المجرّب إذ يخبرُ عنهُ ” وينفض عن هويتهِ الظلال : هويتي لغتي .
هكذا ينجح الإثنان كل على حدة بإن يخلقا هويةً موازية لهويتهما المدفونتين واحدةٌ تحت حوافر الحزب ” الذي لا مانح إلّا هو ” وواحدةُ تحت المستعمرات والإسطورة الهابطة على أرضِ بواسطة الدبابة والـــ F16
الغربة غربة اللغة
إن تكن اللغة قلعةَ المنفي الأخيرة ومناورته البديلة في الحرب على التغييب المقصود , فإن أي مساسٍ بها سيُعد موتاً للمدون بها , لا حياة إلّا باللغة ولا موت إلّا بموتها , وفي حوار طويل مع درويش أجراه عبده وازن لجريدة الحياة يجيب درويش :
– هل تخاف الموت؟
– لم أعد أخشاه كما كنت من قبل. لكنني أخشى موت قدرتي على الكتابة
ويأتي جواب بركات بنفس المعنى في مقابلة مصورة في بيته في السويد منشورة على اليوتيوب قائلاً :
– ” غربتي الوحيدة ستكون ذات يوم – إزا أحسست بالغربة – لمّا أفشل بالكتابة ”
وتُعرف تحية المنفيِّ من التفاصيل
من منفاه الأخير في غابات سوكوغوس وسط السويد , ينام الكردي مطمئن البال وهو يتحسس لغتهُ كل صباح حين يفيق ويجدها سالمةً فيبدأ بكتابة الرواية , ويرصف لغة الشعر بشكيمة ذئبةٍ تدافع عن جرائها , ولا ينسى في فترات الراحة أن يعلي النفير عالياً لدرويش الذي كان قد إختار التنقل بين باريس ورام الله وعمان , يرفع بركات الناظور ويرصد التفاصيل بعين راصدٍ كشّاف في قصيدة عنوانها ” محمود درويش بتاريخ حزيران 89″ يعدد فيها – شعراً – تفاصيل شرفة درويش /ردهة بيته /الرواق /محبرته /علبة تبغه /قهوته /كسله الصباحي /سيرة قلبه /نظارته :
يا لشؤونه , إذاً
يا لشؤونٍ تعبث بالعاصفة
وتداعب الينابيع التي تتقافز كجراء سلوقي بين متاريسه
كم يجسان معاً متقابلين , يرمي بنرده على المنضدة وترمي بنردها
كم تجلس التواريخ بينهما وهي تجفف بأنفاسهِ ذؤاباتها المبلولة
“بركات/ الاعمال الكاملة ص412”
ويرد درويش التحية قصيدةً في ” لا تعتذر عمّا فعلت ” ولا يغفل فيها رصد التفاصيل :
منزله نظيف مثل عين الديك ..
منسيّ كخيمة سيد القوم الذين
تبعثروا كالريش. سجاد من الصوف
المجعد. معجمٌ متآكل. كتب مجلدة
على عجل. مخدات مطرزة بإبرة
خادم المقهى. سكاكين مجلخة لذبح
الطير و الخنزير. فيديو للاباحيات.
باقات من الشوك المعادل للبلاغة.
شرفة مفتوحة للاستعارة. ها هنا
يتبادل الأتراك والإغريق أدوار
الشتائم. تلك تسليتي وتسلية
الجنود الساهرين على حدود فكاهة
سوداء..
الهامشيّ لعبة المنفيّ إذاً يرفعهُ بنبلٍ ويضعهُ على المنصةِ لجوار الرئيسي وإن تطلب الامر يقصي الرئيسيّ ويقول للهامشي :
– تقدم , فلولاكَ ما نجونا
تحية البشروش إلى البشروش نهاية الدرب
خجلاً كانت شمس التاسع من أغسطس من عام 2008 تصعد منصة الشرق, راصدةً وعبر النوافذِ الممرات الموصلة بين غرف مركز هيوستن الطبي , في حين كان الفريق الطبي ينزع في حياد جارح أجهزة الإنعاش عن قلب قرر أن يقدم إستقالته أخيراً من غير بلاغة أو فصاحة , وما إن كاد الفريق الطبي يُنهي جولته على بقية المرضى حتى رنَّ الهاتف في رام الله معلناً فردَ ستارة الموتِ الموشاةِ بذهب الصمت على حياة الشاعر محمود درويش ,بعدها بقليل يصل الخبر إلى السويد , فيبكي الكردي ويفتحُ ما ظلَّ دفيناً:
” تنفّس الموتُ في وجهيَ، هذه المرّة؛ تنفّس عميقاً في المكان، الذي رسمتَ خريطتَه على صفحاتٍ من كتابك الأخير “أثر الفراشة”، يا محمود.
نسيتُ، ربما، أن أزوّد تدوينكَ عن بيتنا، في غابة سكوغوس، شجراً أكثر، وطيوراً أكثر، وأنت تستعرضني طاهياً، متذرعاً بأفاويه الكاتب وتوابله. قلتَ: “تناقلتُكَ بلسان كتابتي، مراراً، كشاعر. سأتناقلك، الآن، كطاهٍ”. وفي مطبخي ذاك، الذي ابتكرتُ فيه، إذ زرتَني قبل سنتين، خيالاً لمساءيْن من اللحم طريفاً، نقلتْ زوجتي سيندي الموازينَ الكبرى للألم إلى جهة العاصف: كانت واقفةَ قرب المنضدة حيث أجلس. ألقت بصرَها، على نحو لم أعهده، عبر النافذة، إلى غمامات الفيروز من شجر الصنوبر، والحور الرجراج. لمستُ بيدَي قلبي نظرتَها النقيّة كبكاءٍ تتكتم عليه الشِّفافةُ المعلَنةُ. سألتُها: “ما بك؟”. ردّت: “لم تعد تخبرني، إذ أعود إلى البيت، أنّ محموداً اتصل بك”
ـــــــــ
النهار 8 ديسمبر 2008
لن يمضيا إلى الصحراء
سوكوغس / السويد / مساء مثل أي مساء
– ما الذي جرى ؟
– لن يعرف أحد , لكن الفلسطيني يومها وقبل أن يغادر وقف بباب البيت ملوحاً للكردي و ناطقاً بلسان المُنتصر على الموت بضع كلمات :
” باللغة انتصرتَ على الهوية
قلتُ للكردي، باللغة انتقمتَ
من الغياب
فقال : لن أمضي الى الصحراء
قلت ولا أنا..
ونظرتُ نحو الريح
– عمتَ مساء
– عم مساء!
_________________________
*كاتب وقاص عربي