حكايات النساء من البيت الى عالم التشرد


د. لنا عبد الرحمن

“امرأة تعرف ألف أغنية،خبزها طري، ومربياتها شهية،وفي الأيام الماطرة تعد الكعك المحلى، وشرائح التفاح المطهوة. وفي الصيف تُبقي ورودا في الأصص على البيانو، ورودا ضخمة ضواعة، وحين تتفتح تسقط بتلاتها،، تضعها في مرطبان صيني طويل مع كبش القرنفل، والزعتر وعيدان القرفة، . وكانت تنيم بناتها على ملاءات مكوية جيدا تحت طبقات من اللحف. وفي الصباح تمتلئ ستائرها بالضوء على نحو ما تمتلئ الأشعة بالريح”

تخوض الكاتبة مارلين روبنسون عبر روايتها ” تدبير منزلي” في عالم متشابك، يظن القارئ للوهلة الأولى أنه سيغوص أكثر في عوالم النساء بكل أبعاده، لكن هذا غير صحيح تماما، ثمة ما هو أبعد من تفاصيل عوالم النساء، إلى فكرة الاغتراب الداخلي داخل بيت العائلة. إنه الاغتراب الذي يطيح بكل الأشياء جانبا، ويلقي بها إلى النار بهدف الانطلاق نحو عالم الرحيل، التشرد هنا لم يكن مفروضا، بل محض اختيار تقوم به البطلات ؛ بطلة تلو أخرى تختار الفرار من عالم البلدة الضيق ؛ بحثا عن فضاء رحب بغض النظر عما يمكن أن تواجهه من صعاب، تضطرها أحيانا للتخلي عن أطفالها، لأن التوق للرحيل يظل غالبا، ومسيطرا على النص حتى في أعمق لحظات الاستقرار.
” تدبير منزلي” من ضمن روايات روبنسون التي حازت من خلالها على جائزة الأورانج؛ وفي هذه الرواية نجد الكاتبة تتبع حياة نساء من ثلاثة أجيال مختلفة، يعشن في بلدة ” فينغرتون” وهي بلدة متخيلة، لكنها لا تبدو كذلك على الاطلاق، إذ تمنحها الكاتبة، كل ما يمكن أن يجعلها واقعية تماما. إنها بلدة العواصف والأمطار، حيث الرياح قادرة على قلع أسقف البيوت، والثلج يتمكن من تجميد السكان في منازلهم لأيام طويلة. تقول : ” لطالما تفاخرت جدتي أن الطوفان لم يبلغ منزلنا يوما، لكن في ذلك الربيع، تدفقت المياه من حواف البيت وغطت أرضيته على ارتفاع أربعة إنشات، مجبرة إيانا على انتعال الجزم عند القيام بالطبخ أو الغسيل”.
تدورأحداث الرواية على لسان “روث” التي تكشف أنها تربت هي وأختها الصغرى “لوسيل” في رعاية جدتها “سيلفيا فوستر” بسبب رحيل والدتها، ثم بعد موت الجدة تتربى البنتين في كنف قريبتين للعائلة عجوزتين تعانيان من أمراض تقدم السن إلى جانب نمط تفكيرهما التقليدي والجاهل ، ثم تؤول رعاية الطفلتين روث ولوسيل إلى خالتهما ” سيلفي فيشر” التي رحلت قبل سنوات وأرسلت العجوزتين إعلانا نُشر في الجرائد للبحث عنها ؛ كي تعود لترعى بنات أختها. ومع عودة سيلفي تبدأ حكاية الرواية الفعلية.
الذاكرة والحنين
في الجزء الأول من الرواية يتركز السرد على شخصية الجدة، في تتبع تفاصيل حياتها بدقة. وفي الرجوع للحديث عن شخصية الجدة عبر حفيدتها ” روث” يلمس القارئ ثلاثة عوامل تقوم عليها الرواية وهي : الذاكرة ، الحنين، والتأمل.
الجدة في الرواية ترمز إلى عنصر الاستقرار والسكينة والدفء، في منزل تحرص أن يكون في أبهى حالاته. لكن منذ السطور الأولى يحضر الحنين كعنصر أساسي، يقوم عليه السرد، لكن هذا الحنين يقابله حرمان كبير يفرض حضوره في عالم الطفلتين، وفي عالم الجدة من قبل، وأيضا في عالم الأم والخالة ؛ فالجدة تفقد زوجها في البداية، وتعكف على تربية بناتها، ثم بعد أن تكبر البنات، تبدأ كل واحدة منهن بالهروب من البلدة، ولأسباب مختلفة، والدة الطفلتين تفر مع رجل غامض وتنجب البنتين ثم تعيدهما ليتربيا في كنف أمها ثم تمضي، وتموت في ظروف غامضة.
تعيش الجدة الحرمان من بناتها بعد هروبهن، وتعيش الطفلتان الحرمان من حنان الأم، وعاطفة الأب، هما لا تعرفان لم تركتهما أمهما، وبعد موت جدتهما تعانيان من الخوف من بقائهما وحيدتين، حتى ظهور خالتهما سيلفي، التي تعيش حياة مشردة بالانتقال من مكان الى آخر.. تقول على لسان البنت الكبرى روث : ” لم نكن سمعنا اسم فينغرتون قبل أن تأتي أمي بنا الى هنا، ولم نكن نعرف شيئا عن جدتنا قبل أن تتركنا منتظرتين على شرفتها “. 
إن حضور الموت في عالم الطفلتين ؛ مع فقدان جدتهما مصدر الأمان بالنسبة لهما يؤدي إلى وجود حالة من القلق تسيطر على مشاعرهما، ” روث” منطوية قليلا، لكن ” لوسيل” جريئة وطموحة لكنها تحس أن حياتهما غير طبيعية، وأن خالتهما سيلفي موضع سخرية من الجارات بسبب إهمالها في التدبير المنزلي، وفي اللياقات العامة، وإهمالها في الاعتناء بمظهرها، ومظهر الطفلتين اللتان صارتا مسؤليتها بين ليلة وضحاها. تحضر سيلفي كشخصية غامضة في البدء، يبدو أنها اضطرت للعودة رغما عنها، من دون أن تملك اختيار، فقد آل مصير رعاية الطفلتين إليها، وينبغي أن تؤدي المهمة، تبذل قصارى جهدها لكنها غير بارعة في القيام بالأمور الحياتية، بل إنها من الممكن أن تنام قرب محطة القطار بثياب رثة أشبه بمتشردة ، كما أنها تجمع الصحف القديمة أو تُجري حوارات مع غرباء عنها، وهذا ما يسبب غضب ” لوسيل” التي لا تحرص على اخفاء غضبها، بل تنفجر في وجه خالتها لتنقل ما يتداوله أهل البلدة في السر. تنتقد ” لوسيل” خالتها التي تنام بملابسها، أو منتعلة حذاءها، وتنسى نفسها في نزهات طويلة عند البحيرة .. وكان لتكرار مثل هذه السلوكيات أن دفع بلوسيل إلى الانتقال للسكن عند احدى عائلات البلدة، حينها تبزغ رغبة الرحيل من جديد عند سيلفي، فما كان منها إلا أن أخذت معها الطفلة ” روث” ومضيتا معا في فرار جديد، بعد أن أشعلتا النيران في منزل العائلة، كي يظن سكن البلدة أنهما قضيتا حرقا لسبب ما، فلا يبحث عنهما أحد.
ولعل المدهش في الرواية أن شخصية ” روث” التي تتشابه مع شخصية الكاتبة نفسها، لا تبدو آسفة على هذا الاختيار، بل بدت متواطئة معه، هذا ما يبدو في الصفحات الأخيرة من الرواية، وكما لو أن عنوان ” تدبير منزلي” تعبيرا عن سخرية مبطنة من عدم قدرة الخالة على القيام بالتدبير المنزلي المطلوب منها كي تنال رضى المجتمع، وبالتالي كان مصيرها التشرد.لكنه هنا تشرد واع بأهميته التي توازي الحرية، حيث المضي الى المجهول في الرواية يماثل القدرة على التمرد من دون كلام أو مواجهات مع المجتمع، بل عبر الفعل المباشر الذي بدا أكثر تحررا وتأثيرا من أي قول.
الجدير بالذكر أن رواية ” تدبير منزلي” من اصدارات ” كلمة”، والترجمة الرشيقة للشاعر والمترجم سامر أبو هواش.

شاهد أيضاً

العهدُ الآتي كتاب جديد لمحمد سناجلة يستشرف مستقبل الحياة والموت في ظل الثورة الصناعية الرابعة

(ثقافات) مستقبل الموت والطب والمرض والوظائف والغذاء والإنترنت والرواية والأدب عام 2070 العهدُ الآتي كتاب …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *