يحيى القيسي *
( ثقافات )
من هو الفلسطيني ؟؟
سؤال تبدو إجابته سهلة وجاهزة، حين يتم ربط الأمر بمولد الشخص وقبيلته مع الجغرافيا، لكن هذا لا يكفي أحياناً لتكون الإجابة صحيحة ومثالية أيضاً فكم من ابن عاق، أو خائن، وكم من وليد جغرافيا جاء بالصدفة أو قسراً ولا علاقة له أساساً بالمكان وأهله، لا نفسياً ولا جسدياً، ولهذا أجدني ألوذ برواية غسان كنفاني ” ماذا تبقى لكم ” لتحمل لي إجابة تعزّز ما أذهب إليه، وتؤشر على أن انتماء الدم لا يعني شيئاً أحياناً، إذ أن الطفل الفلسطيني الذي أصبح ضابطاً في جيش الاحتلال وتهوّد تماماً لم يعد له أي علاقة بفلسطين من قريب أو بعيد بل أصبح من أعدائها المتربصين بها، وتغلب انتماؤه الفكري على رابطة الدم، ورفض العودة مع والديه البيولوجيين لصالح الأبوين المربيين الراعيين..!!
أسوق هذه المقدمة لأقول بأنّ الانتماء لفلسطين مسألة اختيار وقناعة، فكم من المناضلين والمثقفين العرب والأجانب من دفع حياته ثمناً للدفاع عن قضية فلسطين العادلة، وأستذكر هنا فترة وجود المقاومة في بيروت التي جمعت الالاف من المحبين المنتمين لفلسطين، بحيث طغى هذا الانتماء على بلدانهم الأصلية وأعراقهم ودياناتهم، فقد جمعت المقاومة تحت مظلتها على سبيل المثال سعدي يوسف العراقي، و أمجد ناصر الأردني، ومحمد علي اليوسفي التونسي، وحيدر حيدر السوري، وجان جينه الفرنسي، وكثيرون من مصر والمغرب والجزائر والسودان وكافة أرجاء البلاد العربية ودول أجنبية كثيرة، رأوا في الثورة حينها حلماً إنسانياً نبيلاً يجمعهم، وفي ” فلسطين ” أيقونة حق، يجب الانتصار لها، والتضحية في سبيلها، وهذا الأمر انعكس حينذاك على مواقفهم الحياتية، وبقي أثره بشكل أو بآخر لاحقاً .
ورغم الخيبات الكبيرة التي مني بها المشروع العربي، والتقسيمات الاستعمارية الجديدة بأيدي العرب أنفسهم، ولا سيما بعد ما يسمى ” الربيع العربي ” الكارثي ، وانشغال كل بلد بجراحه، فإن فلسطين تعود اليوم إلى الواجهة، وتستقر مجددا في الأولوية للوجدان الجمعي العربي بكل أطيافه للمجازر التي ترتكب في غزة، ومحاولة اطفاء وهج مقاومة المحتل الى الأبد، وهذا أمر يجب أن ينتبه إليه الفلسطينيون بقوة، والاشتغال عليه حتى لا يخبو أو يتراجع، فكما أشرت في البداية أن الانتماء إلى فلسطين يكون فكرياً وعن قناعة بقضيتها وأيضا بالمحبة حسب العبارة النبوية الشريفة ” سلمان منا آل البيت “، وهذا الإنتماء برأيي أكثر سعة، وأثراً من الانتماء بالدم..!
فكم من الروايات والأعمال الشعرية والأفلام والمقالات استلهمت من فلسطين زادها الإبداعي، ومن قضيتها وهجها الفعلي، ولم يكن كتابها والعاملون عليها من أبناء القدس أو الخليل أو حيفا ورفح، بل تباعدت بهم الأقطار، وتشتت بهم السبل، من كافة قارات العالم، إذ وحدتهم فلسطين في الإبداع والتضامن، وهنا أستذكر كتاباً مترجماً مهماً للباحثين منية سمارة ومحمد الظاهر صدر في نهاية الثمانيات في عمان يرصد آراء عدد كبير من مثقفي العالم في فلسطين، وبرغم أن الجراح العربية اليوم تبدو في بعضها أشد وطأة وأبعد غوراً وألماَ مما جرى في فلسطين عبر الستين سنة الماضية، لكن تبقى لقضيتها الأولوية القصوى، لأسباب جلية لا تخفى على كل ذي لب، والمشكلة الآن تكمن في ظهور أصوات سواء من الفلسطينين أنفسهم أو من ذوي القربى، تنادي بقبول الأمر الواقع، وتقديم المزيد من التنازلات، ولعل تنازل المثقف وصوته النشاز يكون الأشد ضرراً والأكثر تضليلاً، وهو يحتاج إلى من يدين سقوطه بقوة، ودون تأجيل، ونخشى أن نستيقظ ذات صباح وقد تبخرت “فلسطيننا” التي تجمعنا معاً، ونقول والحسرة تأكلنا: ماذا تبقى لنا ……!!
* روائي وإعلامي من الأردن
( الخليج )