التجريب في الأدب.. جذوة الإبداع


منيّ بونعامة


أما عربياً، وباستثناءات قليلة، بقيت حقول الأدب مناطق محرّمة على الكثيرين، وتم تأثيم من تطاول على نوع كتابة ليست معروفة عنه. ولعل مكمن الأمر هو خوف الكتّاب من كلام الناس، فكلام الناس هو الأبقى أمام ضحالة الكتابة والقراءة والنقد في العالم العربي.
زياد عدوان 
جريدة العربي الجديد، بتاريخ 15/6/2015
__________
كثيراً ما ينشغل بعض الكتاب بمقاربة واقع الكتابة في الوطن العربي، ومستوى حرية الكاتب في ما يكتبه، ومدى قدرته على تجريب أكثر من جنس أدبي والإبداع فيه بالدرجة نفسها، والنبش والتفتيش عن مواطن العجز والقصور في التجربة الثقافية العربية والتحامل، بل والتطاول على المنتج الثقافي العربي وتسفيهه والتقليل من شأنه في مقابل الانتصار لثقافة أخرى. 
هذا المنزع الغريب الدخيل المفعم بالريبة والشبهات تخوض فيه شرذمة من الأدعياء والمتسلقين المسكونين بحب الظهور طبقاً للمقولة «خالف تعرف»، الذين يصطادون في المياه العكرة بهدف التشهير والتقتير والتقرّب زلفى إلى من يسومهم سوء العذاب جهاراً نهاراً. 
في مقاله المعنون «المتهم بكتاباته» يحاول الكاتب زياد عدوان طرق موضوع مهم وشائك ومحوري كما يظهر في العنوان، الذي يفرض على القارئ منذ الوهلة الأولى السؤال عن ضوابط الكتابة وشروطها وحقوقها، عن تهمة الكتابة وحرية الرأي ومصادرته، وتكميم الأفواه وغيرها من العبارات والجمل التي يرصها المفتونون بجلد الذات بغير وجه حق، بيد أنه سرعان ما تتكشف عرى الحقيقة تباعاً مع الخلوص إلى متن الموضوع ليظهر أن الفكرة لا تتعلق بتهمة وإنما بتخمة الأفكار المتشعبة التي لا ينظمها عقد، ولا يجمعها سطر كونها تتحدث عن محاولة التجريب الأدبي في أكثر من جنس، وليس عن تهمة الكتابة. 
يستهل الكاتب مقاله بحديث دار بين الكاتب المسرحي برتولت بريشت والناقد المسرحي إيريك بنتلي مفاده أن الأول لم يقم بنشر قصائد كتبها بحجة الخوف من كلام الناس وتصنيفهم، مستغرقاً في تحليله وتنظيره ومقارنته بين حال بريشت وبنتلي، ليخلص، وهذا المهم، إلى القول: «أما عربياً، وباستثناءات قليلة، بقيت حقول الأدب مناطق محرّمة على الكثيرين، وتم تأثيم من تطاول على نوع كتابة ليست معروفة عنه. ولعل مكمن الأمر هو خوف الكتّاب من كلام الناس، فكلام الناس هو الأبقى أمام ضحالة الكتابة والقراءة والنقد في العالم العربي». 
والحق أن هذا الحكم مجافٍ للحقيقة ومعطيات الواقع وينّم عن قصر باع وقلة اطلاع على التراكم التاريخي للتجربة الثقافية العربية، كما يشي، للأسف الشديد كذلك، بالكثير من الاستسهال والسطحية، لأن محاولة تجريب الكتابة في أكثر من جنس أدبي أصبحت اليوم ظاهرة ثقافية عربية جديرة بالدراسة والبحث، لما فيها من تفرّد وتميّز يضفي على التجربة صبغة خاصة ويمنحها شحنة من القوة والاندفاع، لكونها تنتهي بالكاتب في كثير من الأحيان على عتبات فن جديد وميدان بكر يخوض غماره متسلحاً بعدّته اللغوية وعتاده المعرفي، وهي مغامرة بل مخاطرة كبيرة، إلّا إذا كانت مشفوعة بالتسلّح بمعارف وخصائص الحقل الجديد، وما يتطلبه من مهارة وتمرّس في اللغة والاطلاع الواسع على الموضوع الذي ينوي الكتابة فيه، وهي فسحة واستراحة للكاتب من الميدان الأصل، ومحاولة لترويض القلم والذهن على الانخراط في ميدان آخر يتطلب حساً مختلفاً وثقافةً متنوعةً. 
وبقطع النظر عن دوافع هذه الظاهرة ومسبباتها إلّا أنها تعبّر بوضوح عن الرغبة الجامحة في تجاوز الحقل الواحد والخروج من ربقته والتملّص من قيوده، لارتياد حقول جديدة يجمعها إطار واحد وتَنْتِظم كلها في حقل الثقافة بمعناها الشامل المجرد من التقنين والتضييق. وتستدعي هذه الحالة من الكاتب جهداً مضاعفاً حتى يحوز في حقله الجديد مرتبة إن لم تكن أرفع من المرتبة التي عرف بها في حقل معين، فليست دونها، لذلك فهي تمثل نوعاً من التحدي وإثبات الذات والقدرة على خوض غمار التجربة بنجاح. 
وثمة العديد من القامات الثقافية العربية التي خاض أصحابها التجريب، وأثبت بعضهم قدرته على اختراق أجناس أدبية جديدة والتميز فيها بجدارة، وهي حقيقة لا تنطلي إلّا على من يقيّمون الأمور حسب أهوائهم وأمزجتهم الخاصة بمنأى عن المعطيات السليمة والقراءة المتبصّرة والحكم الصائب والرأي السديد. 
______
*الخليج الثقافي

شاهد أيضاً

أبورياش: المثقف معني بكل شيء في وطنه وعليه إشعال المزيد من الشموع لإنارة الطريق

الأديب موسى أبو رياش: المثقف معني بكل شيء في وطنه وعليه إشعال المزيد من الشموع …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *