*خيري منصور
على غرار ما كتبه إريك فروم عن الخوف من الحرية، وبالتالي الهروب منها ثمة خوف آخر من المثقف وليس من الثقافة، لأنه يجسّد دلالاتها أو بعضا منها، بينما تبقى الثقافة تجريدا وما انتهى إليه الحال في عالمنا العربي تجاوز العزوف عن القراءة، وضمور هاجس المعرفة حتى لو اقتصرت على الفضول فقط، لهذا تضاعفت غربة المثقف وبدأ يشعر بضرورة التأقلم مع محيطه، كي يستطيع مواصلة الحياة. وهكذا تحوّل المشهد إلى حفلة تنكرية، فالمثقف هو المطالب بالاعتذار، لأنه الأقلية العزلاء والمحكوم عليه مسبقا بالهزيمة إذا قرر إعلان الحرب على الجهل المدجج من حوله بكل الأسلحة، ولا أبالغ إذا قلت إن ما تبقى للمثقف في مجتمعاتنا هو بُعده الاجتماعي ومدى إتقانه لدور المواطن الصالح، وفقا للتعريف التقليدي الذي تعبّر عنه صورة فوتوغرافية أرسلها لي صديق من فرنسا، وهي لرجل علّقت مشابك الغسيل على شفتيه وأذنيه وعينيه، فأصبح طبعة جديدة ومنقّحة من ذلك الثالوث الهندي الذي لا يسمع ولا يرى ولا يتكلم، وقد كتب تحت الصورة المواطن المثالي أو على الأقل المرغوب فيه.
لقد بدأ دوبلير المثقف يحتل دور البطل في هذه الكوميديا العربية التي هي ليست إلهية ولا أرضية ولا حتى برمائية، إنها كوميديا الزواحف إذا صحّ لنا أن نستعير هذا العنوان من الصديق العراقي الراحل محمد شمسي.
وكما أن للمثقف دوبلير ينوب عنه إذا قرر المخرج ذلك، فإن للثقافة كلها أيضا دوبليرات منها الإعلامي وبائع العناوين المتجول والموظف، فالثقافة في لغتنا ومعاجمنا لا تزال تراوح بين تشذيب النخيل وتثقيف الرماح، تماما كما هو النقد الذي كلما تقدم قليلا نحو دوره كإفراز حضاري تراجع إلى جذره الاشتقاقي وهو جذر دجاجي بامتياز.
المثقف الذي لا يعني المرادف للموظف يكابد بين مطرقة وسندان، وبين طغيان السلطة وجبروت التخلف الذي استطالت أنيابه بحيث تخترق العظم وتصل إلى النخاع، وأحيانا يجد نفسه بين ديكتاتوريتين واحدة تمثل التفكير الانفعالي وردود الأفعال الموسمية في مجتمعات تطورت فيها الأمية بمختلف فروعها حتى أصبحت وباء قوميا، وأخرى تتجسّد في رقيب ينتسب بالجملة وعيا وذاكرة وخيالا إلى حقبة ما قبل الدولة وما قبل التاريخ.
وينسى من يطالبون المثقف بأداء دوره إنه بلا دور، وقد ولد شأن الآخرين بحبل سُرّة يربط بين الأحشاء واللسان، ومن سرق دور المثقف هو ذاته الذي يواصل السطو على أدوار الناس جميعا، فهم رعايا وليسوا مواطنين، وانسجاما مع فقه القطعنة عليهم الامتثال وترديد الصدى كالببغاوات، لأن المختلف الذي يعي آدميته واستحقاقاتها بعير أجرب يجب إفراده كي لا يصيب القافلة بالعدوى، المثقف عليه أن يرتدي ثقافته وينزعها كالقبّعة، تبعا للمناسبات أو المقام.
وهذا ما فهمه البعض من تلك المقولة الخرقاء لكل مقام مقال، بحيث يتحول الكائن إلى حرباء تغيّر لونها برشاقة إذا تطلبت النجاة ذلك.
ونحن نعيش زمنا بلغ فيه العقوق والخذلان حدا لا يسلم منه الشهيد، وهناك كلبيون بلغت بهم الذرائعية حدا مفزعا، يرون أن من فقد حياته من أجلهم هو مجرد ساذج أو ضحية لحظة انفعال، والأرجح أن فك الاشتباك بين المثقف والموظف لم يحدث بعد، إلا في حالات نادرة واستثنائية تكرس القاعدة القصديرية لا الذهبية، وحين كتب الناقد والروائي محمد برادة أطروحته، التفت بذكاء إلى ظاهرة المثقف الموظف، ووجد أن جيلا بكامله من المثقفين كان معظمه من الموظفين، وهذا ما تنبّه اليه محمود درويش وإن بإشارة سريعة، حين قال في قصيدة أحمد الزعتر لا ترسلوه إلى الوظيفة لمعرفته أن الفدائي والمقاتل والمقاوم تحولوا إلى موظفين في واقع عربي أعلن الطلاق البائن مع التراجيديا، وأصبح كل شيء يقاس بمعيار الربح والخسارة .
* * *
في الماضي القريب كان الاعتقاد السائد هو أن الجهل عدو المعرفة وبالتالي فالجاهل عدو العارف، لكن الاشتباك الذي حذف الحدود والفواصل حتى بين النقائض في أيامنا جعل من شبه المثقف عدوا للمثقف، لأنه ما أن يحضر حتى يفتضح التشابه، وشبيه الشيء هو نقيضه وليس العكس، لهذا فالديكتاتورية الصريحة ليست نقيض الديمقراطية، بل الديمقراطية الزائفة المستولدة بأنبوب باترياركي هي النقيض.
وبهذا المقياس فإن الجاهل ليس نقيض المثقف، بل نقيضه هو الشبيه الذي تقمّصه في غيابه ويسطو على بضع مفردات ومقولات هي أشبه بالطعم المحشو في فخّ لإغواء الناس العاديين.
ان للموظف سايكولوجيا عبّر عنها بعمق واستبطان حاذق ديزموند موريس في كتابه «القرد العاري»، لكن سايكولوجيا المثقف الجدير بهذه الصفة من طراز آخر، لا مجال فيها لاستدعاء الداروينية والحلقات المفقودة، فالمثقف الذي سرق الدوبلير دوره وحوّله إلى كومبارس في شبه الدولة وشبه الثقافة يكدح في عزلته العالية المضاءة كي يبقى متشبّثا بوعيه، إنه كالنمر في قصيدة لبروك، عاش مع الخراف ثم اكتشف ذات ظهيرة أنه ليس فردا من القطيع، وكان ذلك لسوء حظ الراعي عندما لمح النّمر ملامحه على سطح بركة ماء!
وإلى أن يعثر هذا الاشتباك بين المثقف والموظف على من يفضّه علينا أن نتحمل ما نقرأ ونسمع ونشاهد من الأشباه!
_____
*القدس العربي