*حسام ملحم
في كتابه “مرايا” يحاول غاليانو استمالة التاريخ: من حضن التأريخ الذكوري السلطويّ، إلى جماليات الأسطرة والخيال، اللذين تفوح منهما بحياء واخز، أنّة الأنثى المكمّمة بسطوة الحبر والبطولة.
“أبتاه ارسم لي العالم على جسدي غناء لسكان داكوتا الجنوبية الأصليين” بهذه العبارة الخانقة، يبدأ إدواردو غاليانو “هذيانه” حسب وصفه لكتابه المربك “مرايا، ما يشبه تأريخا للعالم” الصادر عن دار رفوف بترجمة صالح علماني.
الارتباك مع هذا الكتاب يبدأ من عنوانه، ولا ينتهي بكلماته الأخيرة، عنوانه الذي يهمس بتأكيد ذكيّ، مستتر خلف صيغة الإتاحة الكامنة في الـ”ما يشبه” التي يسبّق بها “تأريخا للعالم” في العنوان، ومع كلمة مرايا فوقها، وكأننا به يقول، تعالوا لأخبركم عن التاريخ الحقيقي للعالم، ويتلوها مباشرة قبل دخوله في أجزاء الكتاب -قرابة ستمئة نص متوسط- بخمس صفعات قوية على وجنة الرّوح لنصحو، ونرى بجرأة ما يريد القول “المرايا ممتلئة بالناس، اللامرئيون يروننا، المنسيون يتذكروننا. عندما نرى أنفسنا، نراهم. عندما نرى أنفسنا، هل يروننا؟”.
إذن منذ البداية القاسية “أبتاه ارسم لي العالم على جسدي”، نشعر مباشرة بقبح هذا العالم الذي لو اكتفينا منه، بالإقامة في أجسادنا وحياتنا البدائية، لكان أفضل لنا من تغريبة التاريخ المؤلمة لذاك الجسد، جارّا الرّوح والأنثى وراءه “سبيّتين” رخيصتين، سعيا وراء السلطة والتفوق ورائحة البارود التي تعطّر جسد التاريخ الذكوري.
صناعة التاريخ
متّخذا من صوته الداخليّ الخاصّ الشغِف، معملا لإعادة إنتاج نصوص غارقة في القِدم والغبش، نصوص تتراوح بين الأسطورة والحكايا التراثية لدى الشعوب، والأشعار والقصص المروية في مدونات “ما وراء السّتار”، إضافة إلى تراتيله هو، المنسابة بخفة وذكاء في ثنايا كتابه.
يعيد غاليانو في هذيانه نبش كل شيء عرفناه من قبل، ابتداء من قصّة الخلق الأولى، مرورا باكتشاف النار والبارود والألعاب والأدوات والبروتوكولات والعلوم والفلسفة، والفنون والجماليات والبطولة والمفاهيم والطبقات الاجتماعية، والعنصرية والأديان، والمخدرات والأطعمة، وكل شيء، انتهاء بالحروب المعاصرة واكتشاف القنبلة النووية، مشكّكا -بسخرية ومكر لذيذين- في كل ما وصلنا عن تلك الرحلة الطويلة للإنسان وحضاراته الزائفة، المستترة بنزعته الأولية -التي فرضها تطوره الجيني المطرد- نحو التفوق والإخضاع والملكية، نتيجة الخوف المبهم من الموت وأسئلته التي كانت الإرباك الأول في وجه نبوغه العقلي.
عند ذاك الإدراك العقلي وما أفرزه من أدوات -الميثيولوجيا والسلطة والقوة الجسدية الذكورية-، شرع بإخضاع الحس والأشياء والوجود والفنون لمنطقها، وذلك عبر تخليد الجسد وبطولاته بدلا من روحانية الكون وما يحمله من جماليات متعددة خارج أناه “الإنساني”، وعند هذه المرحلة تحديدا بدأ التاريخ، لتصبح حياتنا منذ تلك اللحظة “أكثر أمانا ولكنها أقلّ حرية” كما يصفها غاليانو في كتابه.
الجزرة والعصا
يكشف غاليانو بأصابع نسّاء محترف، عورة أوروبا التاريخية، المحكومة بعقلية “الذكر الأبيض”، لتتعرّى أمامه كعاهرة رخيصة تختبئ وراء الصليب، يضع تاريخها المقنّع بالحضارات والمنجزات المسروقة من شعوب القارات الأخرى، أمام المرآة، لنراها بعد أن يسقط عنها “ماكياج” عظمتها، عبارة عن “قارة عجوز” يقودها قوّاد مخنث، أحبّ أن يمضي حياته التقاعدية على قارة أخرى سميت آنفا أميركا، بعد أن يفرش أرضها بسجاد من الجلد البشري الهندي الأحمر، ليفتتح منها أكبر ماخور أخلاقي ذكوري في التاريخ، تجارة العبيد والأسلحة والثروات.
فالازدواجية الفاجعة، والتناقض المخيف بين تاريخ أوروبا القروسطي، وحاضرها، يتبدّى في عرض تفصيليّ يدّعي البراءة يقوم به غاليانو، سواء حين يتحدث عن أعلام أوروبا في مختلف مجالات الفنون والعلوم والفلسفة، أو عن قديساتها وراهباتها اللواتي ارتكبن جرم العقل والتفكير، متعدّيات على سلطة الذكر، على من ماتوا منفيين أو مقتولين بأمر من محاكم التفتيش التي كانت سائدة آنذاك، وأصبحوا بعد عدة قرون -حين نبشهم أحفاد مواهبهم وروحانياتهن- رموزا تتغنى بها أوروبا وكنائسها ذاتها التي قتلتهم، متناسية أنها من قتلهم باسم الصليب الذي يزين أعلامها حتى اليوم.
غاليانو لا يشعل نار التناقض، ولا يسكب الزّيت على النار، إنما فقط يضع الأسود بجانب الأبيض، أو بمعنى أدق، يأخذنا في رحلة التفاف حول الحقائق التي وصلت إلينا مسطّحة، ليرينا أنها كروية كالأرض، وتدور، وكما قتل من قال بكروية الأرض، يقتل اليوم -جسديا أومعنويا- من يخرج من تحت سلطة الأمم الحديثة وقيمها، التي فرضتها تارة بـ”جزرة” الإنسانية، وتارة بـ”عصا الحرب”، تحت صكوك غفران ومحاكم تفتيش تحمل تهما معاصرة، تبدأ بالشيوعية ولا تنتهي بالإرهاب.
في القراءة الشيقة التي أعدها غاليانو للتاريخ، ورغم عدم ردّه لأصول الاكتشافات التي غيرت مسار التاريخ في عدة مفاصل، إلى أميركا اللاتينية وشعوبها فقط، بل أيضا إلى شعوب أفريقيا والهند والصين والشرق عموما، فإنه بتجريده العنيف، المبطّن بالحياد والعرض الموجّه، ولو بشكل موضوعيّ ومشروع ربما يسقط قليلا في “لاتينيّته”، مجرّدا أوروبا من تاريخها، وذلك حين يوحي بما انتقاه من نصوص التاريخ لكتابه، بأن نوابغها ومبدعيها في مختلف المجالات، هم مجرّد حالات فردية منبوذة، لا تمثل العقل الأوروبي “الأبيض”، حالات شذّت بداية عن حكم الآلهة القديمة، ومن ثم عن حكم الكنيسة بعد اعتناق أوروبا للديانة المسيحية، وفي كلا الحكمين كان مصيرهم القتل أو النفي، لتجلس أوروبا بكل ماضيها وحاضرها ومستقبلها، بكماء أمام صراخ نصوصه.
______
*العرب