الطاحونة والصليب ..اللوحة التشكيلية سينمائيا




*أحمد ثامر جهاد

ليست المرة الأولى التي تتعاطى فيها السينما مع الفن التشكيلي بما له من خصوصية فنية، وما يزخر به من روائع خالدة سجَّلت على مدى القرون الماضية تحوُّلات التجربة الإنسانية بسعتها وتنوُّعها؛ فقد شهدت السينما العالمية منذ بداياتها محاولات إخراجية عدة استفادت بطرق مختلفة من أساليب الفن التشكيلي في بناء اللقطة السينمائية، فيما توجَّهت أفلام أخرى إلى إعادة رسم أعمال الفنانين وحيواتهم في سياق علاقتها بفنِّهم أو بأحداث عصرهم. وبقدر ما برهنت السينما في المجالين الروائي والوثائقي على قدرتها امتلاك لغتها الخاصة إنها كشفت أيضاً عن أصالة الفكرة السينمائية مثلما عَبَّرت عن حسِّها الاحتفائي بالعمل الإبداعي للفنان، فضلاً عن عدد من الأفلام التي تناولت أعمال وسِيَر كبار الفنانين: غويا، وفان كوخ، ومايكل أنجلو، وبيكاسو، ودالي، وجاكسون بولوك، وسواهم.

إلا أن ما يجعل محاولة المخرج البولندي الأصل ليش مايجويسكي في فيلمه (الطاحونة والصليب – 2011) فريدة من نوعها هو بالضبط حداثتها الأسلوبية والجمالية، فضلاً عن تصويرها البارع لمغامرة الدخول إلى عالم اللوحة التشكيلية من دون الاكتفاء بالوقوف عند حدودها.
اعتمد الفيلم الذي شارك المخرج في كتابته وإنتاجه على لوحة كلاسيكية شهيرة هي (الطريق إلى كالڤاري THE WAY TO CALVARY) لفنان عصر النهضة بيتر بروغل(1525 – 1569)وعمد المخرج إلى تقسيم اللوحة (1,70 م طول على 1,24م عرض) إلى مشاهد عدة حافلة بالتفاصيل المقتَبسة من العمل الفني ذاته، ليُعاد وصلُ كل تلك العناصر والشخصيات لقطة لقطة وصولاً إلى اللوحة بصيغتها النهائية المكتملة. بمعنى آخر أن الفيلم هو تجربة بصرية أخرى تجاور عالم اللوحة، وتنحو إلى إعادة تشكيلها بشعرية بليغة ولغة سينمائية رفيعة جعلت من هذا الفيلم عملاً مبتكراً أصيلاً وغير مسبوق .
ولأننا إزاء موضوع جرى التعبير عنه أساساً باللون والحركة والكتلة والخطوط فإن الفيلم اختار أن يكون مقتصداً جداً في حواراته التي حملت في معظم المشاهد تعليقات الرسام بيتر بروغل نفسه(الممثل روتغرهاور) حول ما يراه من أحداث وفضائع يرتكبها الفرسان الحمر(الإسبان)بحقّ الفلاحين البسطاء. ويحاول المخرج جعل الحدث أمثولة درامية تستعيد واقعة صلب المسيح، سواء في الأداء أو في المغزى، حيث نرى كيف أن مريم العذراء(الممثلة شارلوت رامبيلنغ) تتنهَّد بصمت وإلى جوارها مريم المجدلية وبعض صحبة المسيح، أما الحرس فينتشرون حول خشبات الصلب، ويُمضي يهوذا ليلته المريعة وحيداً قبل أن يقرِّر الانتحار.
عبر مشاهد متتالية يمضي بروغل جلّ وقته في تسجيل الأحداث التي تعترض حيوات الناس، وترسم مصائرهم، فيما يمضي الفيلم في عملية تكبير كل جزء من أجزاء اللوحة وصولاً إلى اكتمالها في نهاية الفيلم الذي يُعَدّ تجربة سينمائية قَلَّ نظيرها.
يشعرك فيلم (الطاحونة والصليب)على مدى ساعة ونصف الساعة أن المخرج يرسم مشاهده بتأنٍّ واحتراف يحاكيان مِهَنِيّة بروغل في نمنمة لوحاته وإشباعها بالتفاصيل الدقيقة التي تشهد على فظائع عصره. يمضي فنان عصر النهضة جُلّ وقته متجوِّلاً في المروج الخضراء، يسجِّل ما يراه من أماكن وبشر: طاحونة الهواء التي تنتصب أعلى الجبل تواصل دورانها، وبائع الخبز يأتي في الصباح ليعرض بضاعته، وليس بعيداً منه يجلس رجل مع زوجته لتناول وجبة طعام بسيطة مع بقرتهم الصغيرة، وعلى الطريق الريفي ثمة عازف جوّال وراقص مبتدئ يمازح المارة، نساء قرويات يحملن المؤونة إلى بيوتهن، وعمال بوجوه كئيبة يتناوبون على قطع أشجار الغابة. ورجل مسنّ يدحرج عجلة عربة، أما بروغل فنراه يسلتقي على العشب الأخضر، يراقب نسيج العنكبوت الصغير، متمنِّياً أن يعمل بكفاءة هذا الكائن ودقَّته العجيبة في لحم خيوط مملكته.
يقول بروغل: «على الفنان أن يرسم لوحة كبيرة بوسعها أن تضمّ أكبر عدد من الحيوات. والأهم من ذلك أن يعرف الفنان أين يجب أن يكون مركز اللوحة». والمركز في لوحة بروغل هو دائرة الموت التي تصوّر واقعة صلب أحد الفلاحين من قبل الفرسان الحمر، مشهد اعتداء سافر لا يمكن فصله عن التراجيديا المسيحية المنذورة لتصوير عذابات المسيح.
الفيلم إنتاج مشترك بين بولندا والسويد، يبتكر حكايته الخاصة التي تشهد على الثيمات الجانبية في اللوحة، ويحاكي بخياله السينمائي عناصرها الإنسانية المؤثِّرة التي يصعب الإحاطة بها من دون التمَعُّن بكل تفاصيلها ، خاصة وهي تضمّ نحو 500 شخصية، يبدو معظمها غير ملحوظ في وجوده ضمن مشهد بانورامي حيوي يمثّل سمة بارزة لأعمال بيتر بروغل. يسعى الفيلم الذي حفل بأداء تمثيلي رائع، إلى تفكيك اللوحة ويمرّ بمشاهده على حياة عمال الطاحونة ويتقصى بفلسفة الضوء والظل رمزية إطلالتها العلوية على الوادي الذي يعجّ بحركة الفلاحين وعامة الناس.في غضون ذلك يهمس بروغل لصديقه النبيل أن صاحب الطاحونة سيظهر في عمله الفني، وسيكون بمنزلة الربّ وهو ينظر إلينا من علوه، متأمِّلاً مصائر البشر في الاسفل. 
تتقارب عناصر اللوحة وتتواصل تدريجياً في ما بينها، حيث تشتبك دائرة الحياة بدائرة الموت مع قدوم الفرسان الحمر واقتيادهم لشاب أعزل والتباهي بتعذيبه أمام الناس، ومن ثم تقييده إلى العجلة التي يتخلّى عنها صاحبها، ليتمّ صلبه لاحقاً باستخدام العجلة ذاتها وهي ترفع على أعمده تتحلّق حولها الغربان السود. تنهش الغربان جسد الضحية بينما تبكي الزوجة الشابة أسفل فنارة الموت حبيبها البرومثيوسي .
***
وبقدر ما تتعدَّد مصادر المتعة البصرية في لوحة بروغل، فإن الفيلم الذي يمزج التسلية بالعذاب بدا باذخاً في ألوانه التي طغى عليها الأسود والأحمر، وبدا تعبيرياً في جمالياته التكوينية وديكوراته التي حاكت بمهارة أجواء عصر النهضة. أبعد من ذلك يمكن القول إن الديكور أخذ حيِّزاً نموذجياً في تشكيل الصورة السينمائية واستمد معناه من الشخصية والفعل، حينما أسَّس علاقته معهما، لتكون له مساهمته الخاصة في الفيلم بتعبير الناقد(في.اف.بيركينيز). وهو ما ظهر جليّاً في الفيلم الذي اجترح علاقة متناغمة ودقيقة بين الديكور والصورة على نحو دلالي، جعل المشهد السينمائي مشحوناً بالمعنى عبر علاقة متوزاية مؤلّفة من رؤية بروغل للواقع الذي تتشكَّل فيه لوحته ورؤيتنا له كمشاهدين وهو يعيد رسم العالم الذي يحيا فيه عبر وسيط بصري – سينمائي ابتكره المخرج مايجويسكي. 
يظهر التشكيل الجمالي للمشاهد أن المخرج تعامل مع الصورة السينمائية بحسّ فنان تشكيلي يعرف كيف يمازج بين العناصر المختلفة، ويناور بانتقالات هادئة تتحرك الكاميرا فيها بشكل أفقي غالباً وببطء شديد يشبه حركة الريشة بيد الرسام وهو يضع خطوطه ورموزه في مواضعها المناسبة. وربما كان من أجمل إبداعات هذا الفيلم الذي كتب مايكل فرانسيس غيبسن السيناريو الخاص به، أن المشهد يمكن أن يتوقف للحظات لنكون أمام لوحة فنية ساكنة، يمرّ بروغل أمامها ويعلِّق على ما يراه فيها قبل أن يستأنف المشهد حركته ثانية. إنها لعبة جمالية فانتازية لتبادُل الأدوار بين الرسام والمخرج والمتلقي.
لقد بدت كل لقطة من لقطات الفيلم غير مقتصرة على موضوع محدَّد، لأن الكادر مشغول وموزَّع بعناية تشكيلية متقنة. فإذا كانت المرأة التي تنظر من نافذتها إلى المنحدر المحاذي لمنزلها الشاهق هي موضع السؤال عن مصير ابنها(المسيح) الذي اقتيد من قبل الفرسان الحمر لمعارضته السلطة فإن وحدتها تعلن عن نفسها بجملة عناصر تتشكَّل من أشخاص وأشياء عدة تتحرك في الأفق البعيد للمشهد: أطفال يرقصون في زاوية قَصِيّة، وفرسان يتمايلون على خيولهم محاطين بغيمة غبار كثيف، رجُل يستلقي على المروج البعيدة ويظهر مثل خط صغير متعرِّج أو نقطة سوداء في فضاء بصري فسيح.
اجتهد مخرج ومصور الفيلم مايجويسكي كثيراً عبر هذه التشكيلات الصورية في استعادة عالم بروغل مثلما يظهر في أعماله الفنية المعروفة،وما هذه التقنية الأسلوبية إلا حيلة من حيل بروغل في الولوج إلى خفايا الواقع الذي لا يظهر للرائي كل حقيقته إلا من خلال تصوير دقيق يربط جميع العناصر بقضية أو بمعنى ما. حينما يعمد الفنان إلى وضع مئات الأشخاص المنشغلين بأعمال وحركات وسكنات مختلفة،قريبين كانوا أم بعيدين، متشابهين أم متنافرين في عالم لوحته فإن ثمة ما يوحّد بينهم في النهاية.. 
متعة خاصة او قَدَر أبدي يتحايل علينا بالموت، والفقر، والأمل.
______
*الدوحة

شاهد أيضاً

“أثر على أثر” معرض لمفاضلة في المتحف الوطني

(ثقافات) “أثر على أثر” معرض لمفاضلة في المتحف الوطني برعاية العين د. مصطفى حمارنة ينظم …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *