*حوار – أحمد فرحات
من بين شعراء جيله.. جيل السبعينيات في العراق، يتميز الشاعر خزعل الماجدي بأنه الأكثر غزارة، وتوجّهاً ملحمياً، في نتاجه الشعري، كما في نتاجه الفكري الموسوعي، والذي يُصرّ على الخوض فيه وحيداً، فيما هو يحتاج بالفعل إلى فريق عمل عريض، إذ كيف لشاعر بمفرده أن ينكب على تأليف سيل من الكتب، بل المجلدات، في «علم وتاريخ الأديان»، و«علم وتاريخ الحضارات»، و«علم الأساطير أو الميثولوجيا»، ولا يشار إليه بالبنان، وبعين الإعجاب والانخطاف، خصوصاً أنه قد أنجز في فضاء هذه المضامير كلها، حوالي 34 كتاباً حتى الآن؟.
من جهة أخرى، وفي غمرة هذا المنتج الفكري البانورامي المعجز والمتنامي، لا ينسى الشاعر خزعل الماجدي، الكتابة الإبداعية، سواء على مستوى الشعر أم المسرح، بل إن الشعرية فيه، هي التي فجّرت، وتفجّر أصلاً، كل مكامن الأسئلة الإبداعية الفكرية المتلاحقة لديه. ومنذ قرأت دواوينه الأولى الصادرة في بغداد: «يقظة دلمون»، و«أناشيد إسرافيل»، و«خزائيل 1 و2»، و«فيزياء مضادة»، وحتى آخر ما أصدره من دواوين في عمّان وبيروت، وأنا في إعجاب دائم بغزارة هذا الشاعر، وخصب مداراته، وعدم سقوطه رهينة الفوضى، والتكاسل، وثرثرات المقاهي، وبارانويا الجماعات المنتفخة، التي تنتج كل شي، ما خلا الإبداع، الذي يحرص عليه خزعل، ويرى أنه لم يعد في العمر بقية للتلهي عن تلبية نداءاته العميقة والمتدافعة فيه، ثمة أجندة مؤلفاتية «طويلة عريضة» وضعها الشاعر سلفاً، وصمم على إنجازها، مهما كانت الأكلاف والتضحيات، بخاصة أنه (فكرياً) لا يشتغل إلا وفق استنتاجية البحث العلمي، والصرامة المنهجية، والانضباط المعرفي، ودقة المقارنات والمحاكمات؟
في هذا الحوار البانورامي معه، تحدّث الشاعر كما لم يتحدث من قبل، وقال أشياء كثيرة في الشعر، ومشروعه الميثولوجي الموسوعي الاستثنائي، وهنا نص الحوار:
——–
* من بين شعراء جيلك (جيل السبعينيات)، وربما مختلف الأجيال الشعرية الحديثة في العراق، أنت الأغزر نتاجاً وإنتاجاً، شعرياً وفكرياً.. ما تفسير ذلك يا ترى؟
** تفسير ذلك أنني ومنذ نشأتي الثقافية، لم أنشغل بشيء آخر سوى الكتابة. لم تجذبني إغواءات المال أو السياسة أو الحياة الاجتماعية، بغوايتها البرّاقة بشكل خاص، وكان مشروعي الثقافي، منذ وقت بعيد، ماثلاً أمامي، ومضيت فيه، أطوّره ويطوّرني في اتجاه أهدافي الروحية والمعرفية، حتى أنجزت ما أنجزته، أدركت منذ صباي، أن الحياة الروحية للإنسان مهمة جداً كما الحياة المادية، ولكنني وجدت أن الدين يحتكرها بشكل كامل على وجه التقريب، فقررت أن أصحح الأمر، وكان أن وجدت الشعر أشمل من الأدب، وهو أيضاً عكس الدين، لا تقيده الأيديولوجيا، فاعتبرت الشعر ديانتي الأولى. كانت الحياة التي من حولي، كلها، مثبطة لي ولمشروعي، ولكنني كنت مصرّاً عليه وحده فقط، وكان يزداد وضوحاً، وتتكشف تفاصيله كلما مضى بي الوقت. لم أستلم في حياتي كلها، حتى الآن، منصباً أو وظيفة مهمة. ولم أسعَ إلى ذلك، ولم أحلم بثروةٍ سوى الكتب، ولم أضيّع وقتي إلاّ في القراءة والكتابة الثقافية، وما يناظرها بالمستوى نفسه في الحياة؟ وكنت، وما زلت، أحاسب نفسي بصرامة على هدر أي وقت أنفقه في أمورٍ جانبية.
الحياة في العراق تشبه التدلّي على حافة هاويةٍ، نتعلم منها أن الموت تحت أقدامنا كل يوم، وعلينا أن نكتب موتنا مراراً كي ندفعه عنا في الواقع. وهذا نوع من الممارسة السحرية العميقة، حيث الكتابة تؤجل الموت سحرياً. لا يوجد هدر فرص وحيوات على وجه الأرض، أكثر مما يوجد في العراق. الأرقام المليونية لموت وقتل وهجرة وعذاب وفقدان ناس وخسارتهم لمواهبهم، وأرقام مليارية لنهب وسرقة ثروات البلاد وعبثية صرف الأموال، كل ذلك ليس له مثيل إلاّ في العراق، بلد ضاع في مهبّ الريح، ضيّعه سياسيون مهووسون بالفتن والجهل، بلدٌ دمّره أهله قبل أن يدمّره الأعداء ومن حوله. عندما أدركت ذلك منذ زمن بعيد، ربما مع نهاية السبعينيات (حيث انفجار العنف الدموي مع مجيء صدام حسين للسلطة)، وسيطرة العنف الشامل على العراق، ودخوله أول حرب مليونية أيضاً، هي الحرب العراقية – الإيرانية، أدركت أننا ذاهبون إلى حتفنا، صار الموت يتمشى في حياتنا جذلاً مرحاً، وصرت أشعر بأنني قابل للموت في أي لحظة، وبطريقة مجانية. ولذلك اتخذت قراراً مهماً في حياتي، وهو أن أنصرف كلياً إلى مشروعي الثقافي والشعري، وألاّ أدع أمراً يحول دونه أو يعطّله. وعندما تشتغل بحاسة الموت، يلتهب كل شيء في حياتك، وتتحوّل أنت بذاتك إلى ورشات عمل داخلية تعمل بنشاط نوعي. لقد قررت أن أدافع عن نفسي بوجه صنّاع الموت، وكانت الكتابة سبيلي إلى ذلك. وكان لي ما أردت، عندما أبعدت نفسي عن كل ما يتعلق بالسياسة والمال والمنافع الاجتماعية. ولم أزل على هذا النهج حتى اللحظة.. وعلى الرغم من كل المتغيرات الشكلية في وضع العراق، غير أن هذا البلد المنكوب يزداد عنفاً واضطراباً.. وهكذا تراني أكتب، كي أدفع عني هذا الكابوس.
إغواء الأساطير
* ما معنى هذا الإصرار الدافعيّ الملحميّ لديك، والذي يظل يجتاح مُطلق تجربة كتابيّة تخوضها، شعرية كانت أم تنتمي إلى أي حفر معرفي موازٍ آخر، وبخاصة منه ذاك المتعلق بالميثولوجيات، وعلم الأديان، ومعتقدات ما قبل التاريخ… إلخ؟
** بدأت الأمور من الشعر، وعلى الرغم من اندفاعي نحو الحداثة، فقد جذبتني إغواءات الشعر الشرقي، والنزعات الذوقية الخاصة فيه، فذهبت إلى الأساطير، وإلى علوم الأسرار من سحر وعرافة وتنجيم وغنوصيات وهرمسيات، كي أتذوق قطرات الشهد العالقة فيها من الروح وتدفقها، وهذا ما لم يحصل مع الذين جايَلوني، فأنت تعرف أن بريق الحداثة في السبعينيات، كان كبيراً، ولا يستدعي سوى الحداثة، لكنني بعد تعرفي إلى الحداثة وممارستها، وجدت نفسي في قلب التراث الشرقي، وكان إغواء وادي الرافدين لا نظير له، فهِمْت بتراثه القديم وتاريخه وحضاراته، ثم نهلت من علوم الأسرار المصرية الغامضة والآسرة. وهكذا نقلني الاهتمام بالأسطورة والهرمسيات إلى الأديان، وتيقنت أن الأديان تحتل أعظم نسبة من تراث البشرية، فتفحصتها، ليس بدافع أيديولوجي، بل بدافع ثقافي ذوقيّ، وجمعت كل أديان البشرية في قلبي بحب، ورأفت بها، وانتزعت منها أشواك التعصب المدبّبة، فبدت لي ناصعة فريدة في جمالها.. بدت لي أشبه بطيف قزحي كبير لروح الإنسان. الروح مفهوم غامض جداً، لكننا عندما نسلّطه على موشور التراث البشري، تتضّح أطياف قزحه السبعة أو العشرة أو المئة، لا فرق، المهم أنني رأيت أطياف الروح، وبدأت بتذوقها على مهل، من خلال الشعر والدين والفلسفة. ثم وجدت أن الدين هو جزء من منظومة أكبر، هي الحضارة، فانتقلت إلى تاريخ الحضارات، وتفحصت حضارات البشرية كلها، بالمنهج نفسه الذي ما زلت أتبعه، وهو ألاّ أتعصب ولا أهمل تراثاً بشرياً بدعوى المركز والهامش، بل كنت، وما زلت، أجد أن أي رصيعة تراثية (روحية أو مادية)، مهما كانت هامشية أو مهملة، هي من أجل غنى الإنسان، وليس اعتباطاً أن يتنوّع التراث البشري بهذا الشكل، فمثلما هناك آلاف الأنواع من الأزهار أو الأسماك أو الفقاريات فثمة آلاف أنواع من التراثات البشرية، كلها ظهرت من أجلنا، لنتعلم منها ونتذوقها.
هكذا وجدتني وقد تدرجت من الشعر إلى الأسطورة إلى الأديان إلى الحضارات، لكن الشعر بقي القلب النابض لكل هذه الحلقات المحيطة بعضها ببعض، إنه ديمومة شحنتها، وهو باعث شرارتها التي لا تنقطع.
فطرة غير نيّئة
* التفكّر دينياً، والتفكّر شعرياً في ضوء تشبّعك الروحي والتأويلي من عملية بناء نصّك الملحمي خلالهما.. متى يتناغمان فيك، ومتى ينفصلان؟
** في الشعر أترك للفطرة في داخلي التحكّم بقصيدتي أساساً، لكن هذه الفطرة ليست نيّئة، كما عند الشاعر الأميّ أو الشعبي، بل هي فطرة مخصّبة بالمعارف والقراءات والعلوم الكثيرة، بطريقة الشحن، وليس بطريقة فهارس المكتبات. هكذا تجدني وقد أنضجت فطرتي، طيلة السنوات الطوال الماضية، لجعلها المولد الرئيسي للشعر، كي أواجه بها التصلّب المعرفي الذي اكتسبه كل يوم أيضاً. وهذا ما يدفعني إلى القول بأنني أقصي العقل الأكاديمي المنضبط بقوة، ولا أسمح له بالتدخل في صياغات النص الشعري.
التشبّع الروحي والديني مناخ عظيم لنشوء الشعر الحقيقي الذي أراه. التناغم محسوب بنسب تقلل من التفكّر الديني، وتزيد من الفضاء الشعري. ومهما حاولا الانفصال، فإن خيطاً شاحباً يبقى بينهما، وهذا الخيط مفيد للنهل من خزائن الروح، وليس لمباركة المرجعيات الدينية النصية.
الشعر.. بلا توابع
* أي جاهزيات فهم واستيعاب تريد أن تفجّرها عبر صنيعك الإبداعي البانورامي المفتوح. فثمة إحساس لدى قارئك إجمالاً بأنك تصرّ على تأكيد سطوة شعرية ما، يتسع إنشادها ليطبع، ليس مرحلتنا الراهنة فقط، وإنما المراحل المستقبلية أيضاً.. ماذا تقول؟
** لست شمولياً في التفكير بالشعر إلى هذا الحد، أو على الأقل بهذه الطريقة، لكنني أرى أن الشعر موجود كالهواء والماء في تراث البشرية. عاشت عليه الأديان كلها، كما عاشت عليه الأجناس الأدبية على اختلافها، بل وعاشت عليه العلوم القديمة والوسيطة، وعاشت عليه أيضاً الفلسفة. لكن جميع هذه القطاعات تتنكّر له، وتتبرّأ منه، وتصفه بأبشع الصفات، في حين أنه مبتكر الاستعارة.. وكل هذه القطاعات هي فنون استعارة أولاً، وقبل كل شيء. لهذا السبب أحترم العلم الحديث، الوضعي منه والتجريبي، لأنه لم يشيد نفسه على أي أثر شعريّ، أو على استعارة. لقد بدأ بالواقع التجريبي أولاً، ونظمّ بطريقة استقرائية (بعدما كانت استنباطية) قوانينه، وكشف عن النظام الفيزيقي الرياضي، الذي يمسك بالكون والعالم والكائنات كلها، وهذا هو سرّ نجاحه.
الشعر يعلن منذ البدء أنه ليس معنياً بكشف الحقيقة، بل هو لزيادة مساحة الوعي والجمال، وتلمّس أقاصي اللاعج الروحي والحسيّ. إنه لا يدّعي ولا يكذب، في ما تلك القطاعات (باستثناء العلم الحديث)، تكذب وتدّعي.
مهمتي في الشعر، هي إعادة اكتشاف المساحات التي غمرها في تاريخ البشرية، وجمعها في شحنة جديدة معادة الانتظام، كي أتعرف عليه من جديد، وليس كما كان: إما تابعاً لغيره، أو كجزء من الأدب.
على الدوام، أحاول القول بأننا فهمنا الشعر من خلال الأدب، وهذه خطيئة كبرى، أو فهمناه من خلال الدين، أو السياسة أو… وهذا غير صحيح أيضاً، الشعر كان موجوداً في كل هذا، ولكنه أيضاً كائن حي، مستقل، وله جماله الخاص الذي لم يكتشف بعد.
* كيف يمكن اكتشافه الآن؟
** نحن محظوظون أننا نعيش في هذا العصر، وليس قبله، لأن المعرفة توسعت بشكل كبير، ومكنتنا من فرز الأمور والنظر لها بعين جديدة. إن التصنيف أو التمييز الذي جرى في كل قطاعات المعرفة والإبداع، كان مثمراً، وجعل كلّ حقل يتميز دون القيام بوظيفة غيره، الشعر هو الآخر، يجب أن يتميز، ويكون له حقله الخاص، ويجب أن يتخلص من الروابط القسرية التي تربطه مع السياسة والإعلام والفكر وغيرها، يجب إعادة بناء العلاقة وجعلها أكثر شفافية، بمعنى أن الشعر الذي كان تابعاً للدين أو السياسة أو الإعلام، يجب أن يكون مستقلاً عن هذه الحقول الآن، وأن يبني معها علاقة جديدة، لا تصادر جوهره ووظيفته وتكوينه، أي أنني لا أطالب بقطع صلته مع الحقول التي هي حقوله (والتي كان ذائباً فيها) بل بإعادة تشكيل هذه العلاقة من جديد، لكي نحتفي بكائن حيٍّ جديد أعيدت ولادته في هذا العصر الجديد.
كانت خطوة الحداثة التي تأسست في أوروبا منتصف القرن التاسع عشر، أول الخطوات النوعية والمهمة في هذا المجال. أتعرف لماذا؟ لأنها ببساطة وضعت الشعر في النثر، وفكّت عنه قيوده الموسيقية الصارمة، فكانت قصيدة النثر بمثابة انتصار الشعر على أقمطته الموسيقية، وتحرره من رضاعة ثدي الدين أو السياسة، وهكذا نما طفل الشعر وصار صبياً، لكنه ابتلي بحماسات المراهقين بعد ذلك، فتبنى التطرف والميوعة معاً، وتحزّم بالأحزمة الثورية، وصار إعلامياً، ودورنا الآن، هو تخليصه من كل هذا، وجعله ناضجاً وتحويله إلى شاب حكيم ومتأمل وعارف ومستقل.
هذه صورة تبسيطية لما يجب فعله، كي نحرر الشعر من قيود جديدة وأمراض جديدة.
عين العقل.. عين الشعر
* وأنت تشتغل على النصوص الميثية والدينية القديمة، الطالعة من ليل التاريخ، ومن خلال الهرمنوطيقا، أي علم التأويل، هل العين العقلية الحدسية لديك، تُدرك، وبنظرة واحدة أحياناً «الحقيقة» كلها؟.. السؤال موجه إليك هنا شاعراً لا باحثاً.
** كلا، لا تكفي تلك العين، بل لابدّ من عين الشعر، لماذا؟ لأن عين الشعر هي الأشمل، وهي الأكثر حرية، والأقل قيوداً. كل ما يتركه الإنسان من نصوص، يتحوّل إلى شعر مع مرور الزمن. كلما تتعتّق النصوص، أي نصوص، تنبعث منها رائحة الكحول (أعني الشعر)، ولكي أثبت كلامي هذا، فإن النصوص الطبية أو الفلكية لسومر وبابل ومصر والهند والصين، عندما نقرؤها الآن، نشمّ فيها رائحة الشعر. وهذا ينطبق، بدرجة أقل، على مثل هذه النصوص في الحضارتين الإسلامية والمسيحية… وهكذا.
كنت أقلّب قبل أيام كتاب «الفهرست» لابن النديم، وهو كتاب فهرست، وليست فيه إلا عناوين كتب، وبعض محتوياتها، وجدت فيها شعراً، فتخيّل كيف أن الشعر موجود في كل التراث البشري، مثل الهواء أو البخار أو الكحول؟!.
الحقيقة كلمة مجازية للوهم. لا توجد حقيقة كليّة بالمعنى الدقيق للكلمة. ثمة تجليات لها في كل التراث البشري، ولكنها لا توجد لوحدها، الشعر يضمّها أيضاً، لكنها مواربة، وتتخفّى بأغطية كثيرة، وتهرب كالبرق.
تكملة مهمة «مرسيا إلياد»
* أنت تبحث في التاريخ القديم، في الأديان والحضارات… إلخ. لا بأس، ما رأيك بمن يقول بأننا نحن جميعاً اليوم في عصر اللا تاريخ الجديد، أو مجهول العالم الأعظم؟ نحن في معتمل استراتيجية إنسانية لا تعرف اسمها بعد، وعليه فإن هذا الجديد يفرض علينا ترك الما قبل، والما بعد، لللاشتغال عليه، واكتشاف أنساق سلطة رؤيته لنا، ورؤيتنا له من أنساقنا فيه؟
** هذا صحيح، وأنا أتفق معه أيضاً، لأن كل شغلي في الماضي من أجل الحاضر، كان «مرسيا إلياد» يقول: كل وجود الإنسان كفاح من أجل نزع القداسة عن الأشياء، وهو قول صائب جداً. رحلتي في الماضي لفهم كيفية نزع القداسة عن الأشياء، ولكي أكمل المهّمة التي قال بها «مرسيا إلياد»، فهو نفسه قد عانى من هذا الأمر، وقد استطاع في رأيي أن ينزع القداسة عن الكثير من مساحات الماضي، بكشف مقدسها الذي يربض مسترخياً عليها لأزمان طويلة. وهو بهذا يكون قد نظّف الغرف الداخلية للإنسان مما علق بها، وأضاء عتمتها. هذا ما أفعله بالضبط، أذهب للماضي كي يشفى إنسان الحاضر والمستقبل.
أعرف تماماً النزعة التي تحدثت عنها في سؤالك، فهي نزعة بنيوية، تعطل الماضي والمستقبل، وتهتم ببنية الظاهرة في الحاضر فقط. لكن البنيوية لم تتمكن من الإجابة عن كل ما يقلق الإنسان، ولذلك طويت صفحتها، وجاءت بعدها طرق أهم مثل الفينومونولوجيا، والتفكيكية والتأويلية وغيرها. والحقيقة أن كل هذه المناهج ذات فائدة، لكننا لا يمكن الاعتماد على معطيات الحاضر فقط، على الرغم من أنه يجب أن يكون الهدف. دراسات الماضي هي التي أحدثت انقلاباً في النهضة العلمية لأوروبا والغرب عموماً، وجعلتهما يبنيان الحاضر.
في المناسبة، وجواباً عن فكرتك حول اللاتاريخ الجديد، أو المجهول الأعظم، وهي تسميتك لعصرنا الآن، فالأمر ليس مجهولاً إلى هذا الحد، فنحن في مرحلة من التاريخ يطلق عليها (التاريخ المعاصر)، التي أتت بعد التاريخ الحديث، وميزة هذه المرحلة أنها تسمى عصر المابعديّات: ما بعد الحداثة، ما بعد البنيوية، ما بعد الفلسفة، ما بعد التاريخ…الخ. وهو عصر العولمة، وهو عصر الأنثروبولوجيا، لكن محدّداته معروفة، فحضارته الوحيدة الحيّة، هي الحضارة الغربية. أما ما يعيشه باقي العالم، فهو ثقافات نازحة من التاريخ القديم، أو التاريخ الوسيط، وساكنة كالجثث في التاريخ المعاصر، لا حياة فيها، ولا إبداع، وهذه هي أزمة العالم الآن.
البشرية اليوم، ليس أمامها سوى طريق واحدة، وهي التخلّي عن أوهام ماضيها والإندماج بالحضارة الغربية، من أجل تحويلها إلى حضارة إنسانية شاملة، تتحلّى بضوابط أخلاقية عظيمة، وتبعد المركزية الثقافية والعرقية للغرب منها. هذا هو زمننا، ولا أظنه مجهولاً أعظم كما قلت.
* أيؤرقك كشاعر أن تبقى الأشكال الشعرية الحديثة، هكذا من دون سطوة ذوقية ونفسانية عامة؟
** يؤرقني جداً، رائع تشخيصك هذا، هذا هو ما أنادي به بالضبط، فلو أننا أعطينا الشعر مساحة أكبر في تجواله اليومي والواقعي، وزدنا عمقه الروحي، وأعطيناه درجات من الجمال الجديد، لكانت له سطوة ذوقية ونفسانية عامة أكبر. الأشكال الشعرية تحتاج بالضبط إلى هذا، لأنها ابتكرت وسكنت وقرّت دون أن تجوب شوارع الحياة، ودون أن تغوص في أعماق الروح، ودون أن تتلون بدرجات الجمال. ما نحتاجه هو شعراء يعون هذه الحقيقة، وينفذونها بطرق مرهفة.
القصد من هذا الكلام، أن الشعر العربي على وجه الخصوص، ابتكر على مدى نصف قرن، أو ستين سنة، ما كان يجب ابتكاره في قرون، ولم يمكّن الناس من هضمه جيداً، بل لم يترك مبتكراته لكي تتحمّص تحت الشمس، ويلوكها الناس طويلاً، ويستوعبونها في لا وعيهم الجمعي، ولم تترك الأشكال الشعرية لتتمرّغ في طين وحرارة الواقع والأحداث.
الشعراء مطالبون بمرحلة ثانية اليوم، وهي كيفية خلط تلك التقنيات الحديثة بمتغيرات الواقع، وهو ما سيجعلنا نبتكر نصوصاً جديدة بعيدة عن المنجز النظري، الذي كانته فقط، بل هي ابنة الحياة والواقع.
الشعر ديانة غير مؤدلجة
* يبدو أن ما نسمّيه شعراً، لم يعد بالفعل، محدّد الملامح، عندنا وعند غيرنا، يقول جاكبسون: «إذا أردنا أن نحدّد هذا المفهوم (أي الشعر)، علينا أن نقابله بما ليس شعراً، إلا أنه ليس من السهل أن نقول اليوم ما لا يكونه الشعر».. ما تعليقك؟
** ملاحظتك هذه تختصر ما تحدثت عنه في بداية حديثنا، من أن الشعر موجود في كل النصوص. الشعر هو الديانة الأولى غير المؤدلجة والمنفلتة. عصور ما بعد الحداثة، تعيد إنتاج ما حصل في عصور ما قبل الكتابة، عندما كانت النصوص شفاهية، ويختلط بعضها ببعض، وروح الشعر ترفُّ عليها.
تشخيصاتك تدهشني.. أحتاج الكثير لتصوير الأمور لك بطريقة دقيقة. كان الإنسان في عصور ما قبل التاريخ قد أنجز، من دون قصد منه، حشد لاوعيه الجمعي بالرموز والإشارات الروحية والمادية (وهي أهم المصادر السريّة لمعتقداتنا وأفكارنا)، وكان كل شيء من معارفه منغمراً فيها ومطلاً برأسه الصغير إلى مناطق وعيه البسيط.
وما زلنا إلى يومنا هذا ندين لما حصل في عصور ما قبل التاريخ في هذا المجال، تعرف لماذا؟ لأن زمن تلك العصور استغرق 99 في المئة من تاريخ ظهور الإنسان. أما عصور الحضارات كلها، فيعادل واحدا في المئة فقط. هذا يعني أن طبقة الوعي، هي قشرة شفّافة، يرقد تحتها سديم اللاوعي. الشعر بمعناه الشامل العميق معنيٌّ بذلك السديم، وقد نشأ في تلك العصور يوم كان السحر مهيمناً قبل الدين، ثم الدين بمعناه البدائي، ولكن الشعر يتغلغل في كل شيء. الشعر اليوم يعيد اكتشاف هذه المناطق بطريقة، أو بأخرى، ويتمشى في أرض الواقع، مزدحماً بلهاثه وغيبوبته وبدائيته. الشعر يختلط باللا شعر، ويختلط بالنثر، وبجزيئات الواقع وذرّاته. وهذا، من وجهة نظري، يؤذن بعصر جديد للشعر، يتخلّى فيه الشعر عن مُوجّهاته المعروفة سابقاً. ولأكن واضحاً هنا: إن الشعر سينحو منحىً أنثروبولوجياً، لا في المناطق الشاسعة للماضي فقط، بل في المناطق الشاسعة للحاضر هذه المرة.
* بعد إيغالك المستمر والمفتوح في الميثولوجيات، وعلم الأديان، هل صرت شاعراً هرمسياً على نحو ما؟
** الهرمسية تجري في نصوصي منذ زمن بعيد. وإذا كنت قد تمكنت منها في شعري، وجعلتها صفة عامة له، فهذا يعني أنني نجحت في مسعاي، لأن وضعها في الشعر، يعني القدرة على التخلص من مُوجّهاتها الأيديولوجية، وفتح فضائها، وتحويلها إلى هواء أو ماءٍ أو كحول. وهذا هو النجاح إن كان قد حصل فعلاً. الهرمسية تتصل بالسحر من جهة سابقة، وبالغنوصية من جهة أخرى. وقد كانت نصوصي منذ السبعينيات مسرحاً لهذه المذاقات الثلاثة. وهذا يشعرني بالتوازن.
أفول «الفحول»
* شبّهت الديكتاتوريات الشعرية العربية الحديثة بالديكتاتوريات السياسية، وقلت بما معناه، إن عصر «الفحول» قد بدأ بالأفول.. هل كنت تقصد هنا أن جبروت «روّاد الشعر العربي الحديث»، هو أعتى وأمرّ وأكثر سطوة من جبروت السياسيين؟
** كلا طبعاً. لا يوجد أقسى وألعن من الديكتاتوريات العربية، ولكني قصدت أن هذه الديكتاتوريات، لم تكن في السياسة فقط، بل هي في كل شيء، ومنه الشعر بشكل خاص. فقد ظهر فحول شعراء الحداثة، بالتوازي مع هذه الديكتاتوريات السياسية، والزعامات المعلنة، وكانوا يطمحون، بقصد أو من دون قصد، إلى صنع مركزيات شعرية تدور الأجيال حولها، ويدور الشعراء الآخرون حولهم. وطالبت بتفكيك هذه المركزية وفضحها، وضربت مثالاً مهماً من جيلنا (السبعينيات) وقلت إن عظمة هذا الجيل، تكمن في أنه أول جيل يرفض هذه المركزية، ويرفض أن تحصل معه، فشعراء السبعينيات في العالم العربي كله، يتراصفون الواحد جنب الآخر، كلٌّ له لونه، في صورة فسيفسائية رحيمة، تخلو من المركزية. وبذلك نكون قد أنهينا أسطورة الفحولة الشعرية. إذ ليس هناك نجوم سبعينيون في الشعر يتدافعون نحو المركز، وإن حصل هذا هنا، أو هناك، بشكل بسيط، فالآخرون لن يسمحوا بحصوله، وسرعان ما تعود الأمور لحالها، وقد انتقل هذا الأمر للأجيال التي بعدنا، وظلت النجومية والمركزية والفحولة من نصيب جيلي الخمسينيات والستينيات فقط.
* يرى البعض أن العالم لم يعد عاجزاً عن خلق شعراء كبار فقط، بل إنه أصبح عاجزاً حتى عن تذوق شعر الشعراء السابقين.. ماذا تقول؟
** هل تعرف أن هذا هو القانون الحقيقي للشعر؟ فهو أبعد ما يكون عن الفحولة، والمركزية، والكبر، وسائر هذه الغلاظات الاجتماعية. ودليلي على هذا، أننا نقرأ في التراث الموغل في القدم، شعراً بلا أسماء شعراء، ونندهش به. كل الشعر السومري والبابلي والمصري والكنعاني والهندي والصيني والفارسي، هو شعر من دون مؤلفين. لقد بلورته الشعوب، وقام بجمعه، أو تدوينه، كهنة لا نعرف أسماءهم، وإن عرفناهم، فهم ليسوا من كتبه أو سجّله.
لكنني أقول لك بملء القناعة، إن الشعر هو المتن الدنيوي المهم الذي ينافس النصوص المقدسة، بل ويتفوق عليها فنياً. هي تتنافس معه بغطائها المقدس فقط، والذي يضمن له هيبة في نفوس الناس. أما الشعر، فهو الأعزل الأعظم بين الفنون، وهو المخترق الأكبر للزمان، وسيبقى ذخيرة الروح الإنساني بكل صفائه وعمقه إلى الأبد.
* لماذا يتعيّن على الشاعر أن يشعر دوماً، بضرورة أن يكون موضع إعجاب، وأن يوجد حوله وهماً مفاده، أنه شاعر متميز وفريد، لا يضاهيه شاعر آخر؟
** هذه هي أمراض الذات المتضخّمة. عندما تغتني الذات الشاعرة، يمكن أن يرافقها انتفاخ زائف، يجعلها تشعر بكل ما ذكرته، وهذا هو مقتل الشاعر الجيد. لكن الشاعر الذي يراقب نفسه، ينتبه إلى سرطان الذات هذا، ويجزّه ليشعر بعده بأنه إنسان عادي أولاً.
أعتقد أن أفضل علاج لهذا، هو أن يكتب الشاعر الحقيقي، ودوماً، عن ضعفه الإنساني، عن التباسه وتلعثمه، عن يأسه وتبعثره.. وعن العيون العمياء التي في داخله، وأعتقد أن هذا قد يساعد على خفض شعوره النرجسي في ذات متضخّمة متورّمة.
عذاب العراقي الأزلي
* «العراق المعذب منذ الأزل»، كما تقول في غير حديث إعلامي معك، هل كتب عليه أن يظلّ معذّباً إلى الأبد؟.. وهل ستظل أنت «ترتّل مجد الإنسان المهان»؟
** لم يحكم العراق نفسه مرة واحدة بشكل مدني صحيح، ولو حصل هذا، سيكون قد وضع نفسه على الطريق الصحيحة، وسيبدأ بإنهاء معاناته. كان على الدوام يبني مجتمعه ودولته بشكل ديني أو قومي أو طائفيّ، أو بهذه الصفات معاً، ولم نشهد دولة مدنية بالمعنى الدقيق للكلمة، وإن شهدناها بشكل بسيط (كما في العهد الملكي)، فقد كانت تقوم على مجتمع منقسم مذهبياً وقومياً وعشائرياً، وهو ما يساعد على العصف بها وتقويضها، وهذا ما حصل.
كان دائما هناك حكم الأديان، والطوائف، والقوميات، وقبلها الإمبراطوريات. وإذا ما اختفت هذه، جاء حكم العشائر وهكذا.. عذاب لا رحمة فيه، وقسوة ما بعدها قسوة. سيهدأ العراق عندما يتحول من بلد صاخب يحتل أول أحداث نشرات الأخبار، منذ نصف قرن تقريباً، إلى بلد هادئ لا تسمع عنه خبراً في سنة كاملة، وحين يحصل هذا، ستعرف حينها، أنه يبني نفسه بصمت واحترام.
لم يبق في العمر الكثير، وليس في الأفق ما يطمئن بظهور عراقٍ حقيقيّ، بل على العكس، فالعنف والضراوة يستشريان بقوة أكبر هناك، يوماً عن يوم. وكان الناس يلومونني على يأسي من إصلاحه، وهم يرون الآن أحلامهم فيه كيف تتحطم وتبور. وهذا طبيعي، لأن النظرة العلمية لبناء العراق، تؤكد خطأ المقدمات، والتي لن تفضي إلاّ إلى فشل النتائج.
يبدو أن قدري هو أن أبقى أكتب عن مجد الإنسان المهان في العراق، والمنطقة كلها. ألستُ واحداً من الناس الذين نالتهم هذه المصائب؟ فماذا جنيت أنا من العراق غير هذا؟ لا شك أن الأمر مفزع للغاية، لكنني حزين أن أفعل هذا. أما كان يمكن أن يكون دوري أفضل، كما حاولت سابقاً وسعيت؟! وهل في ترتيل البكاء عن العراق وأهله (شعراً ونظراً وبحثاً) سيخفف عني العذاب النفسانيّ، الذي يسكنني الى الأبد؟.. لا أعتقد. ملايين من العراقيين مثلي يتحسرون على ما حصل، وعلى ضياع جهودهم. ونحن جميعاً نشاهد اليوم تصدّع العراق وتهاويه، دون أي قدرة لنا على فعل شيء حقيقي يحول دون ذلك.
———
بوكس
—–
لأننا لا نشعر بالإهانة
أبشر العرب والمسلمين بهزائم لا نظير لها في المستقبل القريب
* إلى أي إهانة جديدة نسعى كعرب؟ أما كفانا إهانات؟
** لا أعتقد أننا سنتوقف عن ذلك، لسبب بسيط جداً، وهو أننا لا نشعر بالإهانة. فحين تحطّ مركبة فضائية للغرب على المريخ، لا نشعر بالإهانة، وحين يخترعون أجيالاً متلاحقة من هواتف الموبايل الذكية فيها العجب، نستعملها بإسراف، ولا نشعر بالإهانة، وحين يكون اقتصاد شركة واحدة من شركات الغرب، معادلاً لكل الدخل القومي لبلداننا العربية، فلا نشعر بالإهانة، وحين ينافس اليابانيون الغرب في صناعتهم، لا نشعر بالإهانة، وحين نفشل في كل حروبنا، لا نشعر بالإهانة، ويقيناً أننا حين نكتشف بأننا كشعوب، أو دول، لم ندخل التاريخ الحديث، وأننا ما زلنا نراوح ونتراجع في العصر الوسيط، فإننا لا نشعر بالإهانة.
وأخيراً لا نشعر بالإهانة عندما نصفّق لمذابح القاعدة أو داعش، ولا نشعر بالإهانة عندما ننتظر وتأتينا دولة الخلافة، ولا نشعر بالإهانة عندما تتشرد شعوبنا في أوطانها، قبل أن تتشرد في منافي العالم.
أنا أبشرك وأبشر عالمنا العربي والإسلامي بهزائم لا نظير لها في المستقبل القريب، لأننا لا نشعر بالإهانة.
* وما الحل؟
** الحل في العلم والتعليم والعمل، وبناء مجتمعات بمواصفات حديثة يسود فيها القانون الوضعي فقط، وبناء دول حديثة (وليس قروسطية) فيها مواصفات علمية محددة ومعروفة في علم السياسة، وجعل الدين أمراً شخصياً وليس عاماً.
هامش ٢
ديوان من 850 صفحة
* أصدرت ديواناً شعرياً من 850 صفحة.. ديوانك: «أحزان السنة العراقية»، كما أخبرتني أنك بصدد تأليف كتاب ضخم في علم الأديان يتجاوز الـ650 صفحة.. ألا تخشى هنا، في ما خصّ مؤلفك الأخير، من خروجك على الصرامة المنهجية، والانضباط المعرفي، والفكر النقدي المصاحب لك كباحث؟
** لماذا؟ أنا باحث أكاديميّ، وأحمل الدكتوراه في التاريخ القديم، وكل كتبي الفكرية تخضع لصرامة منهجية. أما أدواتي كشاعر ومتذوق من نوع خاص، فتلعب دورها في التقاط الجوهر، ونبذ الاستطراد، والنفاذ إلى ما وراء الأفكار والظواهر والأحداث، والحفاظ على رشاقة لغوية معبرّة، ولكنني لا أستخدم عقلي الشعري، إن صح التعبير، في طرق البحث، فهو مخزوني الذوقي للنفاذ، وليس للانضباط المعرفي.
كل ما كتبته في الحقل الفكري، خضع لتدقيق علمي ّ في البحث. واليوم، وبعدما توسّعت مداركي أكثر، وصرت أطّلع على كثير من المراجع بلغاتها الأصلية، أحياناً، تجدني أزداد صرامة في التوجه الأكاديمي.. ولذلك لا أهاب أي موضوع أختاره للبحث، خصوصاً عندما أشعر برغبتي في البحث فيه.
هامش ٣
القارئ هو الغاية
* يبدو أن البيئة «المغلقة» للنص الشعري الجديد، لا تتفتّح إلا عبر وعي القارئ، واجتراحه لكثير من التوقّعات والاحتمالات، التي لا يتوقّعها حتى الشاعر نفسه، أو هي قد تكون غريبة عنه، و مفاجئة له… ما تعليقك؟
** نعم القارئ هو الغاية، وعندما يكتمل إنجاز المهمة معه، نكون قد وصلنا إلى النهاية، لتكون لنا بداية جديدة أخرى.
كم اتهموني بالابتعاد عن القرّاء، لكني لست كذلك أبداّ. كان هذا الأمر ماثلاً أمامي كما شرحته لك. لقد كتبت مئات، بل آلاف القصائد، بعضها ينجز تقنية حديثة، وبعضها يذهب بهذه التقنية إلى القارئ والحياة والواقع. كيف لي أن أنسى أنني عندما قرأت نصي الطويل جداً «حيّة ودرج» على جمهور مدينة ميسان (العمارة: جنوب العراق) في العام 1994 على مدى أربع ساعات، لم يتحرك فيها إنسان واحد من الجمهور، وكان الناس مشدودين إلى النهاية، بلا ملل وكلهم توتر. ونصي هذا هو اختصار لفكرة ذهاب التقنيات والمبتكرات الشعرية للواقع والناس والحياة. كنت أتحدث في هذا النص عن حيّة الناس بعد الحرب، وكيف تحوّلنا، وتحوّل البلد إلى خردة. كانت واحدة من أعظم تجارب حياتي، أوضحت لي ما تحدثت انت عنه الآن، وكان هذا النص، وهذه التجربة القرائية، منعطفاً كبيراً في حياتي.
هامش ١
مذاقات متعددة
* كيف هي ثقتك بشعرك؟
** لا بأس بها، لكنها لا تعني الرضا عن كل ما أكتب أو ما كتبت. هناك الكثير مما أدّخره للمستقبل. حاولت أن أقدّم مذاقات متعددة للقصيدة الحديثة، يغلب عليها المزاج الشخصي، واللون الروحي الخاص بي. أحيانا لم أحفل كثيراً بشروط الحداثة وما بعدها، فكتبت على هواي، وكما يطيب لي في حينها من دون قصد حداثوي أو غير حداثوي. أميل يوماً بعد آخر لجعل الشعر فطرياً وعفوياً، ولأنه يصدر عن ذات عارفة ومضمّخة، فلن تكون عفويته ساذجة، بل ستحمل الحكمة الخفية، وهذا ما يناسب عمري الآن، ومرحلتي التي أمرّ بها.
____
*الاتحاد