حمدي رزق
ثمة ما يربط المبتكر – بكسر الكاف – والمبتكر – بفتحها-.. ثمة ما يجعل الطرفين معاً في وثاق واحد، تنطبع الشخصية التي وقفت وراء الابتكار على ابتكارها، يذهب بعضهم إلى أن ملامح وجهها تنطبع على ملامح وجه ابتكارها، فإن كان وجه المخترع بشوشا جاء ابتكاره بشوشا يحض على السعادة، والعكس صحيح أيضا.. غير أن كل تلك الافتراضات تبقى حبيسة «خانة الافتراض»، لا تعدوها.. ويتركز الانتباه على طرح السؤال: ماذا ابتكر فلان وماذا بقي من ابتكاره هذا؟
وربما يكون فلان هذا ابتكر عدة أشياء بقيت جميعاً علامات على نبوغه، وبقيت كذلك مؤشرا لاهتمامات عصره وضرورات الحياة في أيامه، فنصبح هنا بإزاء حالة: الرجل الذي ابتكر الشيء الفلاني وعرف عنه أيضا أنه صنع كذا وكذا وكذا.. نصبح هنا أمام حالة من الابتكار والقدرة الاستثنائية، حالة من الشغف المطول بإيجاد الجديد، طالما بقي فلان هذا على قيد الحياة!
تلك – وغيرها – خواطر، يحيلنا إليها حلول الذكرى المئوية لرحيل «صاحب الهلال» جرجي زيدان.. لبناني المولد والنشأة، مصري المستقر والوطن، عروبي التوجه، إسلامي الهوى، مسيحي الديانة.. وهو حالة فريدة في الثقافة العربية بوجهيها.. الإعلامي الصحافي، والإبداعي الثقافي.. حالة من «ازدواجية الإنجاز»، انطبعت على إرثه الثقافي والصحافي برمته إلى اليوم، فإن كانت مؤسسة مثل « دار الهلال» الصحافية المصرية باقية إلى الآن.. فإن هذا البقاء له صلة وطيدة بشخصية مؤسس هذه الدار، الذي كافح طويلا للبقاء وافتتاح أولى مطبوعات الدار.. مجلة «الهلال»، التي صار عمرها 122 عاما، وتكاثرت مطبوعاتها بين السياسي والثقافي والفني والنسوي والطفولي أيضا، وصارت لهذه المطبوعات أسماء راسخة في سوق الصحافة وفي المستوى الثقافي أيضا.. وجميعها يتسم بسمة المؤسس الكبير زيدان.. الجمع بين الصحافة من حيث هي أداة بارزة للتنوير. والثقافة من حيث هي محتوى لهذا التنوير..ترك زيدان هذه القيمة النادرة في الإعلام المصري والعربي حتى اليوم، مثلما ترك أعمالاً بارزة في الأدب والثقافة وعالم الكتاب والموسوعة، حتى يعجب المرء من قدرة الرجل القوية الواسعة على التأليف، برغم أن حياته لم تكن طويلة (53 عاما)، فبعض المشاهير عمّر حتى التسعين ولم يقدم للثقافة العربية نصف ما قدمه زيدان.
احتفل لبنان في الأسابيع الماضية بزيدان، جامعة «البلمند» حيث مسقط رأس زيدان في جبل لبنان، أقامت احتفالا معتبراً لجرجي زيدان، حضره كثيرون من مثقفي العالم العربي مشرقه ومغربه، لبنانيون ومصريون ومغاربة ومن جميع الأعراق العربية، ولعل من ضمن أسباب إغراء المثقفين المصريين بالحضور أن زيدان يمثل – لايزال – قيمة ثقافية وتنويرية كبيرة في الأوساط الثقافية المصرية إلى يومنا هذا، كما أن السفير اللبناني « خالد زيادة» مثقف من طراز رفيع، ومؤرخ بالأساس وتربطه صلات جيدة بعدد من رؤوس الحركة الثقافية في مصر، ولعب دورا في حض عدد من المثقفين المصريين على السفر إلى لبنان للمشاركة في الفعاليات الثقافية بالاحتفال بجرجي زيدان.
أما دار الهلال، ابنة جرجي زيدان الخالدة في القاهرة.. فإنها تستعد لإطلاق احتفالية ثقافية كبيرة تحت عنوان «عدالة المؤرخ.. وإبداع الأديب»، سيلقي فيها خالد زيادة كلمة في الافتتاح، فضلا عن الروائي الكبير يوسف القعيد والدكتور جابر عصفور وزير الثقافة، تتناول الاحتفالية جرجي زيدان أديباً وروائياً، ومؤرخاً وباحثاً، كما تشتمل على مائدة مستديرة حول العلاقات الثقافية العربية (مصر ولبنان نموذجاً)، وهي احتفالية تعد لها دار الهلال العدة منذ أسابيع فضلاً عن إصدارها موسوعة «تاريخ آداب اللغة العربية»، تلك التي كتبها زيدان وأصدرها في أربعة مجلدات قبل ما يزيد على مئة وعشرة من السنوات، وهي الموسوعة التي لم تطبع – في القاهرة – سوى مرتين، الأولى حين أصدرها زيدان والثانية في الخمسينيات. ولكن ماذا يبقى من زيدان بعد مئة عام من رحيله؟ وما الذي يدفع كل هذه المؤسسات في مصر ولبنان رسمية وأهلية للاحتفال به بعد كل هذه العقود على رحيله؟ هل من الممكن أن يخلد المثقف ذاته على التاريخ بأعماله أو يخلد الشخص الذي ابتكر شيئا – أو أشياء – نفسه بهذه الأشياء؟
الجواب معلوم من دفاتر التاريخ، وإلا لما كنا علمنا شيئاً عن ملوك مصر من الفراعنة ولا عن أباطرة الرومان، وهؤلاء مضت على رحيلهم قرون طويلة وأزمان سحيقة، لكن أن تكون من آحاد الناس، وتخلدك أعمالك فتلك هي المسألة، لاسيما إن كانت أعمالك هذه ثقافية، وسط عشرات من رموز التنوير الذين يحيون معك وإلى جوارك، ألم يعش زيدان مع العقاد وطه حسين والمازني والرافعي وغيرهم من رموز الفكر العربي في نفس الزمن؟!
البحث عن الذات
يحار المرء حين يتأمل سيرة «جرجي زيدان»، من أين يبدأ؟ لاسيما إن كان يريد الوصول إلى جواب شاف حول السر الذي دفع زيدان إلى البزوغ وسط كوكبة من المشاهير، أو بتعبير أدق وسط كوكبة من رواد الاستنارة المصرية والعربية وعمالقة الفكر..!
ولد «جرجي حبيب زيدان» هذا اسمه الكامل كما نعرفه في بيروت في 14 ديسمبر 1861/ كانون الأول لأسرة مسيحية فقيرة من قرية “عين عنب” في جبل لبنان. وكان أبوه حبيب زيدان رجلاً أمياً يملك مطعماً في ساحة البرج في بيروت يتردد عليه رجال الأدب واللغة وطلاب الكلية الأميركية. أرسله أبوه لمدرسة متواضعة لتعلم القراءة والكتابة والحساب ليستطيع مساعدته في إدارة المطعم وضبط الحسابات، ثم التحق بمدرسة الشوام فتعلم اللغة الفرنسية، ثم التحق بمدرسة مسائية لتعلم اللغة الإنكليزية بعدها عمل في مطعم والده إلا أن والدته «مريم مطر» لم تكن راضية عن ذلك وطلبت من أبيه أن يعلّمه صنعة أخرى، فاتجه لتعلم صناعة الأحذية وهو في سن الثانية عشرة ولمدة عامين لكنه تركها لعدم رغبته في ذلك العمل. بدأ يميل إلى المعرفة والاطلاع وشغف بالأدب واحتك بالمتخرجين من الكلية الأميركية ورجال الصحافة وأهل الفكر والأدب مثل يعقوب صروف وفارس نمر وإبراهيم اليازجي وسليم البستاني وغيرهم، وكانوا يدعونه لحضور احتفالات الكلية. التحق بالكلية السورية البروتستانتية (الجامعة الأميركية) حيث نجح في امتحان القبول لتعلم الطب ولكن درس لمدة عام حيث ترك دراسة الطب واتجه لدراسة الصيدلة إلا أنه قرر أن يرحل لمصر لدراسة الطب فاقترض مبلغ ستة جنيهات من جار له في بيروت.
كان زيدان في تلك السنوات كبطل درامي إغريقي يبحث عن ذاته التائهة، كان كمن يملك مشروعا عظيما، لكنه لا يعرف تفاصيله بل لا يعرف من أين يبدأ.. لكنه عرف طريقه تلك في مصر التي رحل إليها بجنيهاته الست..!
زيدان في مصر
هاجر إلى مصر والتحق بكلية الطب إلا أن ظروفه المادية وطول الدراسة جعلته يبحث عن عمل. فعمل في تحرير جريدة الزمان التي كان يملكها رجل أرمني الأصل وكانت هذه الجريدة هي الوحيدة في القاهرة بعد أن أوقف الاستعمار الإنجليزي صحافة ذلك العهد. ثم عمل مترجما في مكتب المخابرات البريطانية بالقاهرة ورافق الحملة الإنكليزية التي توجهت للسودان لإنقاذ القائد الإنكليزي «غوردن» من حصار جيش المهدي، ودامت رحلته في السودان عشرة أشهر عاد بعدها لبيروت عام 1885وانضم للمجمع العلمي الشرقي الذي أنشئ عام 1882 وتعلم اللغة العبرية واللغة السريانية وهو ما مكنه من تأليف أول كتاب في فلسفة اللغة العربية عام 1886 ثم أصدر منه طبعة جديدة منقحة في عام 1904 بعنوان تاريخ اللغة العربية. ثم زار إنكلترا وعاد إلى مصر منقطعاً إلى التأليف والصحافة
استقر في القاهرة وعمل في التأليف والترجمة، وأدار مجلة المقتطف واستقال منها بعد أن عمل بها 18 شهرا واشتغل بتدريس اللغة العربية بالمدرسة العبيدية الكبرى لمدة عامين ثم تركها واشترك مع نجيب متري في إنشاء مطبعة إلا أن الشراكة بينهما انفضت بعد عام واحتفظ جرجي زيدان بالمطبعة وأسماها مطبعة الهلال بينما نجيب متري أنشأ مطبعة مستقلة أسماها مطبعة المعارف.
أصدر جرجي زيدان مجلة الهلال في عام 1892 وكان يقوم بتحريرها بنفسه ثم ساعده إبنه إميل، وقد صدر العدد الأول من مجلة الهلال عام 1892 ثم أصبحت بعد خمس سنوات من أوسع المجلات انتشارا وكان يكتب بها عمالقة الفكر والأدب في مصر والعالم العربي، ورأس تحريرها كبار الأدباء والكتاب مثل أحمد زكي وحسين مؤنس وعلي الراعي والشاعر صالح جودت وغيرهم.
توفي جرجي زيدان فجأة وهو بين كتبه وأوراقه في 27 شعبان 1332 هـ / 21 يوليو 1914. وقد رثاه كبار الشعراء من أمثال أحمد شوقي وحافظ إبراهيم وخليل مطران.. ولكنه ترك في الحركة الثقافية المصرية كثيرا من التأثيرات فضلا عما تركه من تأثيرات صحافية وإعلامية.
“هلال” زيدان
قلنا ان زيدان أسس «الهلال» ثم صارت خلال خمس سنوات راية ثقافية خفاقة في العالم العربي.. كانت – باختصار مجمعا للأقلام المصرية والعربية المثقفة من أكبر الأسماء، ولم تقتصر نهضة «الهلال» كتجربة ثقافية صحافية على فترة جرجي زيدان وحدها، جمع فيها زيدان الأدب والتاريخ إلى « الرسالة الثقافية»، بل امتدت بعد زيدان مدفوعة بفكره لعقود متصلة، امتدت لما بعد جرجي زيدان لتؤدي أدوارا ثقافية متعددة، فطوال الفترة من 1914 – سنة وفاة زيدان – وحتى العام 1952 – سنة قيام ثورة تموز، يوليو الشهيرة- لعبت الهلال دوراً رئيساً في التنوير وتثقيف المصريين والعرب تثقيفاً شاملاً، وتأسست على مادتها الثرية أجيال متعاقبة من القراء بالعربية، وهي أول إصدار ثقافي عربي بالمعنى الشامل والحقيقي للكلمة، يشتمل الشعر والنثر، والمقال والتقرير الصحافي والخبر، يشتمل على الرأي والمقال التاريخي والدراسة الدينية، وفي تلك الأخيرة.. انتمى زيدان إلى مدرسة التسامح الواسع، تلك التي كان زيدان من أئمتها وروادها، والتي بثت روح الإيمان العام بالدين.. ولم تتبن الأفكار الإلحادية التي كانت تظهر من وقت لوقت في تلك الفترة، ولا تبنت الأفكار الدينية المتشددة التي ظهرت على الجانب الآخر.. كأفكار رشيد رضا، وهو من بلاد الشام كما زيدان وكانا صديقين، وكان فكرهما واحداً حتى افترقت بهما السبل بعد ذلك..!
واصلت الهلال دورها مستلهمة زيدان حتى اليوم، صحيح أن «النغمة» تغيرت بعد تموز – يوليو 1952، لكنها صارت أكثر تقدمية وشمولا من ذي قبل، لاسيما في الستينيات، حين حولها كامل زهيري الى فكرة « الثقافة الشاملة»، أي المطبوعة التي تعطي قارئها جرعة كبيرة متنوعة من الثقافة.. أدب ونقد وفن تشكيلي وآثار ومقالات للرأي السياسي والتاريخي، وواصل هذا الخط من بعده رجاء النقاش وراجي عناية وحسين مؤنس وكمال النجمي ومصطفى نبيل ولا تزال الأسماء تتوالى.
وبقيت الهلال منبرا للثقافة وعلامة على الصحافة الثقافية، ومن بعدها تتالت التجارب الصحافية الثقافية في مصر والعالم العربي، تكاد تلمح في كل منها شيئا أو أشياء من روح الهلال وصلبه، حتى صار «الهلال» رمزا للصحافة الثقافية، وبرغم أية ظروف اعترت هذا الإصدار إلى اليوم، إلا أنه لايزال صامدا، يقاتل بروح جرجي زيدان.. الذي تزدان مؤسسته – دار الهلال – بتمثاله النصفي – في بهوها الرئيسي إلى اليوم..!
المؤرخ الناقد
هل يستطيع مقال واحد أن يفي جرجي زيدان حقه؟ بالطبع لا، لكن المقال الواحد يستطيع أن يذكر ويعدد السمات الرئيسية لزيدان، فهو إلى جانب الصحافة وتأسيسه لدار مهمة كدار الهلال ومجلتها الأساسية « الهلال»، كان مؤرخاً مهماً، صحيح أن مدرسته في التأريخ اختلفت عما سبقها وما تلاها من مدارس، وأنها لم تعد – الآن – الأفضل في أدواتها ونتائجها.. لكنها تبقى علامة على محاولة تأسيس «مدرسة» في التأريخ.. هي تلك المدرسة التي تعتمد على رأي المؤرخ ورؤيته الخاصة للأحداث والشخصيات.. وتلك هي المسألة.
خصوم زيدان التاريخيون يقولون أن زيدان كتب ما اعتقده، بعيداً عن البحث المنهجي في دراسة التاريخ أو ما يسمى (مصطلح التاريخ) واعتمد على ما كان ذائعاً على ألسنة عامة الوراقين، أو الكتب التي تلقي الأخبار على عواهنها من غير تمحيص أو تدقيق أيضاً، بل أخذ بأقوال الخصوم، وبالكتب الموضوعة لأخبار المجان، وبعجائب الأمور وغرائبها.. ساعدته على ذلك إمكاناته الجيدة في اللغة العربية واللغات الأجنبية، وسعة خياله؟!
أما أنصار زيدان المؤرخ فيرون أنه كان منصفاً. صحيح أنه اعتمد رؤاه الخاصة في « النقد التاريخي»، ولم يعمل بأدوات المؤرخ الحديثة المعروفة، لكنه – برغم ذلك – ترك لنا زادا كبيرا من المؤلفات التاريخية التي هي كفيلة بتعليم أجيال.. أحداث التاريخ وأدوار الرجال والنساء فيه من فجره إلى مطلع القرن العشرين، ومن عصر الفراعنة حتى سقوط الخلافة العثمانية.
وأياً يكن تقييم زيدان كمؤرخ، فإنه يحسب له تلك الموسوعات التاريخية التي أصدرها بنشاط وهمة تحسبان له بالطبع، في تاريخ الإسلام وغيره من الأبواب التاريخية (لعل أبرزها تاريخ آداب اللغة العربية)، تلك التي صدرت وقت لم يكن ثمة كاتب عربي واحد يعنى بإصدار مؤلفات بارزة في التاريخ.. سبق زيدان العقاد وطه حسين بكتاباته التاريخية تلك بسنوات، ولولا رحيله المفاجئ 1914، لكانت بينهم مبارزة مهمة في هذا السياق.. ولو لم تكن لزيدان مكانته في عصره ككاتب تاريخي لما كانت الجامعة المصرية عرضت عليه في العام1910 وكانت ماتزال حديثة العهد- مقعد مدرس مادة التاريخ الإسلامي وما إن قبل العرض مع تفكير متردد متأن حتى فوجئ بتراجع الادارة، تحت ثقل هجوم مباغت لسلفيي ذلك الزمان، وإخوانه، كيف يدرس التاريخ الإسلامي مسيحي.. وصارت قضية كبرى؟
فأثر ذلك سلباً في نفسيته وشعر بالمرارة، التي ألقت بظلالها على السنين الأربع اللاحقة من حياته القصيرة واشتد الحنين إلى مسقط الرأس بيروت، مع شعوره بأنه لم يصبح فرداً مقبولاً في المجتمع الذي اختار العيش والعطاء فيه..! فهل كان شعوره هذا حقيقياً.. أم كان مجرد تأثر مفرط من هذا الموقف؟ عموماً مات زيدان ولم يحر جواباً لهذا السؤال..!
الأديب والكاتب
من الصعب العثور على بيان دقيق للروايات كلها التي كتبها جرجي زيدان. فالرجل كان غزير الانتاج متعدد الاهتمامات وله أعمال تغطي الكثير من نواحي الابداع وأصدر على سبيل المثال ثلاثمئة مجلة من مجلة (الهلال) و(32) رواية في التاريخ الإسلامي و(19) مجلداً في الأدب والتاريخ والعلوم وصدرت هذه الأعمال في فترة من 1892 إلى 1914 وفي أكثر من مطبعة وكانت تنفذ فور صدورها كما ترجمت إلى أكثر من لغة.
يلفت النظر هنا أن الوقت الذي قطعه زيدان كاتبا تصدر له الكتب – ويعكف فيه أيضا على إصدار «الهلال» – لم يكن سوى22عاما، تنحصر بين صدور «الهلال» 1892 ووفاته 1914..وهي فترة يعرف الكتاب المحترفون أنها قصيرة للغاية مقارنة بما حققه فيها زيدان من حجم ضخم في النشر.
من بين أهم رواياته اشتهر جرجي زيدان برواياته التاريخية الشهيرة التي بدأها برواية «المملوك الشارد» التي صدرت في سنة (1309 = 1891م)، ثم تتابعت رواياته حتى بلغت اثنتين وعشرين رواية تاريخية، منها سبع عشرة رواية تعالج فترات من التاريخ الإسلامي، تمتد من الفتح الإسلامي إلى دولة المماليك، مثل: أرمانوسة المصرية، غادة كربلاء، فتح الأندلس، العباسة أخت الرشيد، الأمين والمأمون، شجرة الدر، استبداد المماليك.
وقد لقيت هذه الروايات رواجاً واسعاً وإقبالاً هائلاً، وتُرجمت إلى الفارسية والتركية، والأذربيجانية، وغيرها من اللغات، وتنحصر أهمية هذه الروايات في أنها قدمت التاريخ في صورة سهلة ومشوقة، وبلغة جذابة تحمل القراء على متابعة تاريخهم من دون مشقة أو ملل.
ومع ذلك فإن تلك الروايات لم تسلم من النقد فيما يتصل بالشكل والمضمون: أما من ناحية الشكل والمعالجة فإن الأحداث تقوم على علاقة غرامية بين بطلي القصة، وتحول الدسائس دون التقائهما واجتماعهما، وشخصيات رواياته متشابهة ونمطية فهو لا يهتم برسم شخصياته.
أما من حيث المضمون فلم يلجأ جرجي زيدان إلى الفترات المشرقة من التاريخ الإسلامي، بل اتجه إلى الفترات التي تمثل صراعاً بين مذهبين سياسييَن أو كتلتين متصارعتين على السلطة والنفوذ، ولم يتجه إلى التاريخ الإسلامي لإبراز أمجاده، وكان متأثراً في ذلك بنظرة المؤرخين الغربيين إلى العالم الإسلامي، ويأتي في روايته ذكر «الدير» بصورة مفتعلة. وعلى الرغم من ذلك فإنه يعد المؤسس لهذا اللون من الروايات التي تجمع بين التعليم والتسلية والتاريخ.
هذه الروايات لقيت رواجا تجاريا كبيرا وإقبالا ضخما، وتمت ترجمتها للفارسية والأذربيجانية والتركية، ولعل أهم ما فيها – دعنا هنا من نقدها فنياً – أنها قدمت بصورة سهلة ميسرة وبلغة فنية جذابة، مشاهد تاريخية شديدة التنوع، ولولا هذه السمات في أدب جرجي زيدان لما انهال عليها الناس يقرأونها هكذا، ولما بقيت إلى اليوم رهن العرض والطلب بعد مئة سنة من رحيل كاتبها.
المثقف الموسوعي
هكذا ابتكر زيدان الكثير، في الصحافة، وفي التاريخ، وفي الأدب والتراجم، وكأي مثقف بارز لم يسلم من التجريح سواء في عصره أو بعد أن رحل، بل إلى اليوم ثمة من يطعنون فيه، لاسيما مع انتشار التيارات المتعصبة دينياً، وثمة من يطعن فيه بالنقد الأدبي بعيدا عن الدين، وثمة من يرميه باتهامات شتى كمؤرخ.
لكن مشروع زيدان التاريخي والأدبي والصحافي بقي إلى اليوم، تلك هي المسألة المؤكدة، وهذا رهان تاريخي ربما لم يفكر فيه زيدان نفسه، برغم انفتاحه الفكري وذكائه الشديد، أن تبقى أعماله ويخلدها التاريخ، ويكتب عنه خصومه وأحباؤه وكذلك المحايدون بعد رحيله بمئة سنة كاملة، وأن تكون كتبك رائجة على الدوام، مع اختلاف أمزجة القراء، على مر العقود.. بل على اختلاف أدوات المعرفة ذاتها عن العصر الذي كتب فيه زيدان تلك المؤلفات اختلافاً كاملاً تقريباً.
يبقى جرجي زيدان رمزاً للمثقف الموسوعي الذي كان مشعلاً للتنوير في مصر والعالم العربي في مطلع القرن العشرين، رمزاً لجيل كامل من المثقفين، كان عليهم أن يكتبوا في الصحافة وفي التاريخ وفي التراث وفي المعارف الجديدة أيضا بنفس المهارة، تلك مواصفات غيرتها الأيام كثيرا، وصار من العبث أن نحلم بها اليوم، لكنها كانت مواصفات ذلك العصر البعيد، وهي التي أنتجت أسماء من طراز العقاد وطه حسين والرافعي والمازني وغيرهم، وهي التي أنتجت جرجي زيدان، المثقف الموسوعي عربي الهوى، الذي ذابت فيه الفروق بين الحدود والمعتقدات، فصار إنساناً بالمعنى الشامل للإنسانية..!
المستقبل