مروان الحسيني *
خاص ( ثقافات )
السعي إلى الحرية أو البحث عنها هو عبودية في حدّ ذاته. لأن من يسعى إلى الحرية أو يبحث عنها، ويبذل مجهوداً وتعباً في سبيل ذلك، يظل مقيّداً في هذا المسعى الذي يجعله محصوراً في هذا الهدف لا يرى غيره. كما أن من يبحث عن الحرية قد ينطلق من إدراك خاطىء بأن الحرية تُكتشف ويعثر عليها ويتم الوصول إليها. وهو بهذا يرى أن الحرية نقطة يجب الوصول إليها، وبالتالي يضعها في رتبة أي هدف آخر يمكن أن يسعى إليه الإنسان، وعندما يصل إليه ويحققه، يبدأ بالبحث عن هدف آخر يحققه.
وعندما تكون الحرية نقطة يجب الوصول إليها فإن المرء في حركته تجاهها يلتزم بخط السير الذي يربطه بها. قد يعتقد أنه حر في فعل ما يريد كي يصل إلى الحرية التي يريد، لكن ما يحدث هو أنه يقيد نفسه أكثر وأكثر في طريقه نحو فكرة متخيلة عن الحرية. ويقيّد نفسه أكثر بقيود الحركة نفسها في اتجاه واحد يعتبره أو يتصوره الهدف.
الحرية ليست كذلك.
الحرية ليست هدفاً منفصلاً عن الإنسان ولا يوجد بينها وبينه فاصل سوى الوهم الذي يصنعه هو بنفسه. وهذا الوهم ناتج بالأساس عن جهل حسّي بالحرية، الحرية الإنسانية بحدّ ذاتها، وليس الحرية كما تم تصويرها في مفاهيم كثيرة عند مفكرين وفلاسفة وكتّاب ورجال دين عبر التاريخ. فالحرية ليست تاريخية أو معلوماتية وإنما هي لحظية، ليس بالمعنى الزمني وإنما بمعنى علاقتها المباشرة بالإنسان وإحساسه بها مجرّدة من الزمان والمكان.
على هذا، تُعاش الحرية وتُحسّ ولا يتم البحث عنها. فمن يبحث عنها يخطىء في إحساسه بها وفي علاقته بها من خلال علاقته بنفسه. وعدم وضوح العلاقة بالنفس يرجع إلى عدم الوضوح في تعامل الإنسان مع محيطه. وهذا سببه في الأساس إحساس الإنسان بافتقاده للحرية، وبالأخص الحرية في الفعل. فهو على الدوام – في علاقته غير الواضحة مع نفسه – متأثر وواقع تحت رحمة الأحداث حوله لا ينتج سوى ردود الأفعال التي تنتجها تلك العلاقة. ولا يرى نفسه فاعلاً أبداً. وإن كان أحيانا يقع في وهم أن أفعاله حرة وهي ليست كذلك بمعنى الحرية الأصيلة لذاتها وغير الناتجة عن أي فكرة أو رد فعل. ومن هنا جاء بحثه الدائم عن الحرية تغطيةً لعجزه عن الفعل. أي عجزه أو هروبه من الفعل اللحظي الذي يعتبر بحد ذاته ممارسة لحريته.
ويختلف الأمر عند من يدرك حريته داخله وفي وضوح علاقته بنفسه وتفاعله الدائم معها. هذا التفاعل الذي لا ينطلق من أي تصور موروث أو محصور بزمن مسبق أو فكرة راسخة، وإنما ينبثق من التجدد الدائم في هذه العلاقة وفهمها ومساءلتها. فهو لا يحتاج إلى ثقل البحث الدائم عن الحرية الذي يملأ فراغاً داخلياً، أو يغطي سوء فهم، عند الباحثين والساعين إليها، وإنما هو في فعل دائم متجدد ومبدع من خلال إحساسه الأصيل بأنه هو نفسه حريته، لا انفصال بينهما ولا مسافة ولا اغتراب. وهو في مواجهة دائمة مع اللحظة من خلال الفعل، الذي هو الحرية نفسها.
فإذا كان الإنسان هو نفسه حريته، لماذا لا يعيشها مباشرةً؟ لماذا لا يعيش نفسه كما هي دون قيود من أي نوع؟
يعاني الإنسان منذ ولادته من الكثير من العوامل التي تباعد بينه وبين إحساسه المباشر بنفسه، بدايةً بتسميته مولوداً، وتقرير حياته بعد ذلك طفلاً فمراهقاً فشباباً وما بعد ذلك من مراحل. حتى إن هذا التقسيم لحياة الإنسان إلى مراحل، هو أيضاً نوع من أنواع الممارسات التي تبعده عن نفسه وعن أن يعيش الحرية كما يحسّ بها، لا كما يقررها له غيره أو كما يراها من خلال منظورات ومفاهيم ومعلومات متعددة.
لهذا فإن بحث الإنسان عمّا يسميه، أو يتصوره، حرية هو في حد ذاته بحث عن شيء آخر هروباً من الحرية الأصيلة التي لا يمكن أن يعيشها الإنسان إلا داخله. أي الحرية التي تجعله في مواجهة نفسه لكي يفهم هذه النفس لا ليخاف منها. أما البحث عن الحرية في ما هو خارج هذا الإنسان فهو عبودية لأشكال وصور عديدة لمفاهيم وأفكار لا تتصل بالحرية وإنما ترتبط ارتباطاً عميقاً بخوف الإنسان من نفسه، وظنّه وهماً أن بحثه عن حرية متخيلة سيوصله إلى التحرر من قيوده.
الحرية ليست متخيلة وليست خارجية. إنما هي حقيقة داخلية.
* كاتب من الأردن