جلال أمين
لا يستطيع أحد أن يزعم أن حياتنا الثقافية قبل ثورة 1952 كانت خالية من الظلم، فمن الذى يستطيع أن يزعم ذلك لأي بلد فى أي عصر؟ ولكن الحقيقة هي أن هذا الظلم قبل 1952 كان أقل منه بعدها.
من الأمثلة التى أذكرها لهذا الظلم في عهد الملكية، رفض الملك فاروق «أو بالأحرى القصر الملكى» أن تمنح جائزة الملك فؤاد الأول للآداب «وهى التى سميت جائزة الدولة التقديرية بعد سقوط الملكية» للدكتور طه حسين فى 1947، رغم أنه كان بلا شك أكبر اسم فى الحياة الثقافية المصرية فى ذلك الوقت. سمعنا وقتها أن الملك غاضب من كتاب نُشر لطه حسين، قبل ذلك بقليل، بعنوان «المعذبون فى الأرض»، يندد فيه بحالة الفقراء فى مصر، ومع ذلك فإن هذا الغضب لم يمنع طه حسين من اعتلاء منصب وزير المعارف بعد ذلك بثلاث سنوات، عندما أتت انتخابات برلمانية نزيهة بمصطفى النحاس رئيساً للوزراء، وشكَّل حكومته الوفدية فى 1950.
نحن لا نبعد كثيراً عن الحقيقة إذن إذا قلنا إن المناخ الديمقراطى الذى ساد فى مصر فيما بين الحربين العالميتين ساعد على وجود مناخ ثقافى راق لا تتكاثر فيه حالات الظلم للمثقفين، وإنما بدأ يشيع الفساد فى حياتنا الثقافية مع زيادة درجة الاستبداد واشتداد قبضة الحكم الشمولى، واستعراض تطور الثقافة فى مصر منذ ذلك الوقت يؤيد هذا الاستنتاج.
لقد أنشأت حكومة الثورة بعد سنوات قليلة من قيامها مجلساً سمى «المجلس الأعلى لرعاية الآداب والفنون والعلوم الاجتماعية»، واختير رئيساً له «أو أميناً عاماً» أديب تصادف أنه كان أيضاًَ ضابطاً بالجيش «يوسف السباعي».
كان أدباؤنا الكبار، من أمثال طه حسين وتوفيق الحكيم والعقاد، يؤيدون حركة الجيش التى قامت بالثورة وعزل الملك فى 1952، ولكن لابد أنهم شعروا بالقلق وعدم الارتياح عندما وجدوا أنفسهم تحت رئاسة شاب، لاشك فى موهبته كأديب، ولكنه لم يكن على أي حال أكثر الأدباء أو الكتاب المصريين جدارة بهذا المنصب، لولا أنه ضابط بالجيش، كان يوسف السباعي يمقت الماركسيين واليساريين بوجه عام، وقد ظهر ذلك فى الكثير من قراراته التى اتخذها أثناء توليه هذا المنصب، أو ما شغله بعد ذلك من مناصب، ولكن الظلم الأفدح كان ما فعله عبدالناصر بعدد كبير من أبرز المثقفين المصريين وأكثرهم وطنية فى الفترة (59-1964)، ففى سنة 1959 قرر عبدالناصر أن يعتقل عدداً كبيراً من اليساريين، ووضعهم فى السجن لمدة خمس سنوات، وتعرض كثيرون منهم للتعذيب «مما وصفه وصفاً مؤثراً سعد زهران فى كتابه: مذكرات سجين»، ولكنه قرر فى 1964 إطلاق سراحهم وتعيينهم فى بعض من أرفع المناصب الثقافية.
لم يكن سبب الاعتقال أن عبدالناصر كان يختلف معهم فى الرأى، «فقد اتخذ في فترة سجنهم أكثر الإجراءات والقرارات يسارية فى تاريخ مصر»، ولا كان سبب الإفراج عنهم وتعيينهم فى هذه المناصب الرفيعة بعد خروجهم أنهم قالوا أو فعلوا أشياء تختلف عما كانوا يقولونه أو يفعلونه من قبل، بل كان كل من الاعتقال والإفراج لأسباب مختلفة تماماً، وتتعلق بالتغير فى علاقات عبدالناصر الدولية.
كان عبدالناصر قد اتخذ أيضاً، فى أوائل الستينيات، قراراً بتأميم الصحف والمجلات ودور النشر الكبرى «كدور الهلال والمعارف وروزاليوسف وأخبار اليوم»، وكان قراراً سيئاً جداً فى رأيى، غلبت فيه الاعتبارات السياسية على الاعتبارات الثقافية، ومازلنا نعانى منه حتى الآن، لقد تحول بعض من أكبر كتابنا ومثقفينا، نتيجة لهذا القرار، إلى ما يشبه الموظفين الحكوميين، يكتبون مقابل رواتب شهرية، ولا ينشر لهم إلا ما ترضى عنه الحكومة.. لحسن حظ كثير من هؤلاء الكتاب أن الحكومة كانت فى تلك الفترة تتخذ قرارات وطنية، وتستوحي ما فيه صالح غالبية الناس، ولكن ما ذنب المثقف الذى كان يرى، بإخلاص، أن المصلحة الوطنية تتطلب إجراءات مختلفة عما تتخذه الحكومة؟ بل حتى أولئك الذين كانت آراؤهم تتفق مع اتجاه النظام الحاكم، لابد أنهم شعروا بمرارة شديدة كلما أرادوا الانحراف، ولو بدرجة بسيطة عما تريد الحكومة أن يصدر عنهم.
أذكر كمثال لهذا، التوبيخ الشديد الذى تعرضه له يوسف إدريس، ومنعه لفترة ما من الكتابة فى أواخر الستينيات، عندما علق على خطبة ألقاها عبدالناصر وقال فيها ما معناه إن الحرية هى حرية الحصول على لقمة العيش، فكتب يوسف إدريس ما معناه أن الحرية لها معنى أوسع من ذلك.
عرفنا فيما بعد أن المثقفين اليساريين كانوا يقومون فى فترة الاعتقال، بسجن الواحات أو غيره، بتأليف المسرحيات وتمثيلها، ويتلون الأشعار، ويقوم بعضهم بتدريس ما يعرفه لمن لا يعرف، وقد استمروا فى ذلك بالطبع، وأكثر منه، بعد خروجهم وتوليهم مسؤوليات عن نشر الكتب والإشراف على المسرح والسينما، وبعد أن عهد إليهم بإصدار مجلات جديدة تعبر عن أفكارهم اليسارية. لقد أدوا خدمات جليلة فى هذه المجالات كلها، ولكنهم – والحق يقال – ارتكبوا بدورهم ظلماً كبيراً تجاه غيرهم من المثقفين الذين لا يشاركونهم أفكارهم.
لقد بدأت، ابتداءً من منتصف الستينيات، تلك الظاهرة التى لايزال بعض آثارها باقياً حتى الآن «رغم تغير العهود التى مرت بها مصر»، وهى سيطرة اليسار على حركة النقد الأدبى، ومن ثم أضيف إلى شمولية النظام النزعة «الشمولية»، التى يتسم بها المثقفون اليساريون فى كل مكان، والتى تتخذ عدة صور، منها أن «كل من ليس معنا فهو ضدنا»، والشك فى وطنية ونزاهة كل من يتخذ موقفاً معادياً لليسار، ومنها أن كل موضوع تقريباً يجب أن يكون التقييم فيه طبقاً للمعايير التى تصنعها أيديولوجية اليسار. لقد عانى بعض أدبائنا الكبار بدرجة أو أخرى من هذه الظاهرة «بمن فى ذلك توفيق الحكيم ونجيب محفوظ»، واضطروا أحياناً إلى استخدام الرمز فى قصصهم بدلاً من التصريح، كما عانى منها بعض المثقفين الذين كانوا يختلفون مع السياسة الاقتصادية السائدة، رغم وطنيتهم التى لاشك فيها، إذ لم يكونوا يوافقون على أن يذهب تدخل الدولة فى الاقتصاد إلى الحد الذى ذهب إليه النظام المصرى حتى نهاية الستينيات، وقد اضطر بعض هؤلاء «من أمثال سعيد النجار وعلى الجريتلى وشريف لطفى وإبراهيم شحاتة» إلى أن يقضوا جزءاً كبيراً من عمرهم فى وظائف خارج مصر.
انقلب الأمر رأساً على عقب بتدشين أنور السادات لسياسة الانفتاح الاقتصادى المضادة لسياسة عبدالناصر، فقد بدأت الدولة فى سحب يدها من ميدان بعد آخر، وبدأ النظام الجديد يحل اليمينيين محل اليساريين، فى إدارة صحيفة بعد أخرى، وفى إدارة المؤسسات الثقافية، ولم يضع هذا الانقلاب بالطبع حداً للظلم الواقع على المثقفين، وإنما غيَّر فقط نوع المظلومين، ولكن هذا يحتاج إلى مقال آخر.
المصري اليوم