نازك البدير
تروي «إنّه يحلم، أو يلعب، أو يموت» لأحمد سعداوي الصّادرة بطبعتها الثّانية عن منشورات الجمل (الطبعة الأولى دار المدى- دمشق) حكاية نديم العراقي الذي تفتّح وعيه على الحرب العراقيّة الإيرانيّة، وعايش من بعدها حرب الخليج الثانية، وسقوط النّظام، والاحتلال الأميركي للعراق، وظهور الجماعات الدينيّة المتشدّدة. تمتدّ تفاصيل هذه الحبكة عبر تفريعات متعدّدة في الرواية، ترتبط بشخصيّات أسرة نديم، وببعض أبناء الحيّ.
تهجس الرّواية بعنف التّحوّل الذي يحكم مصائر الشّخصيّات والأمكنة والأزمنة المسكونة بالتّوتّر. يجد هذا التّحوّل بيئة خصبة في تيّار اللاوعي الذي يتمّ السّرد من خلاله، والذي استطاع سعداوي بواسطته كشف طبيعة نديم. ولم يتمّ ذلك من خلال الأحداث، إنّما من خلال كشف حالته المزاجيّة، وما يدور في ذهنه. وعلى هذا الأساس، لم يحدث الكشف عن تلك الشّخصيّة بشكل تراكمي، بل بظهور جزئيّات يعمل القارئ على لملمتها ليصل في النّهاية إلى صورة شبه كاملة عنها.
الشّخصيّات في مجملها منذورة للانكسار أو للموت: تمنّى «يارالله» أن تنتهي الحرب، ولكنّه دخل في غيبوبة دائمة قبل إعلان نهايتها بيومين (ص.9) قضى نديم حقبة التّسعينيّات مدرّبًا نفسه على الهجرة المؤبّدة. تصارع «بنِّيَّة» الموت، لكنّه يقهرها؛ تئنّ ثلاثة أشهر إثر هبوط جدار الجيران عليها نتيجة القصف الصاروخي الأميركي. يلقى أبو مصطفى الفيلي حتفه برصاص قوّات الاحتلال. وفي الحرب، قطعت ساق حميد من وسط الفخذ. أمّا لوران وعائلتها فتضطرّ إلى مغادرة العراق ثانية تحت وطأة التّهديد، فيُخطَف حلم العيش في الوطن، ويكون الهناك هو الملاذ الأخير.
يتحكّم صوت الرّاوي نديم في تقديم المعلومات عن شخصيّات أخرى (حميد، بَنيَّة، كبير المنضّدين،…) لا بل يجمع في شخصه أجيال العراقيّين من العسكريين والضحايا والمهاجرين، ويصبح اللسان الناطق باسمهم جميعا: «أنا لسان هذه الحكايات جميعاً» (ص.22) بالإمكان الافتراض أنّني رجل من بعقوبة، من أطرافها، من المقداديّة أو دلّي عباس (…) لا أحد يملك الآن أيّة وثيقة عن هويتي، لأني من أولئك الـ60 ألفًا الذين دخلوا التّاريخ بهذه الصّفة».
يتأرجح الزّمن في «إنه يحلم، أو يلعب، أو يموت» بين الماضي والحاضر والمستقبل، وما يستدعيه هو ذهن نديم، ممّا أوجد تداخلًا بين الحدث النامي بشكل تراتبي، والحدث القادم. وبذلك لا تخضع الصور المنسابة إلى ترتيب زمني محدّد، بل تظهر بطريقة تحكي البتر والقطع. فيتمّ سرد أحداث هذه الرواية تارةً في سياق الاسترجاع، وتارة أخرى في هالة الحلم أو الغيبوبة.
وتؤثّث الصّور في الرّواية بعيدًا من الوعي، وتصل إلى ذروتها عندما تقول الذّات السّاردة: «الأشخاص الذين أجلس معهم الآن نصفهم من الموتى والآخرون متخيّلون، وإنّ الفضاء الذي نتحرّك فيه هو مزيج من الهنا والهناك، مثلما هي خلطة الحلم المناسبة».(ص.203-204) تداخل الحلم مع الواقع، فكانت الشّخصيّات إمّا ميتة وإمّا متخيلة، وتظهر بهذه الطريقة صورة الأوطان العربيّة الممسوخة التي فقدت روحها.
لقد تعاضدت مكوّنات الرّواية في تشخيص الارتداد إلى الماضي، بدءًا بلغة الوصف المتوتّر للأحداث، وانتهاءً بالزّمن المتكسّر، مرورًا بالأمكنة التي تراوح بين معسكرات الأسر، ومواقع الحرب، والشّوارع التي تكتسحها الدّبّابات، والفضاء الذي تمزّقه الطائرات الحربيّة.
روى الكاتب عبثيّة الحرب التي يذهب ضحيتها الآلاف، فالقذائف لم تكن تقتل الإيرانيين وحدهم بل ترتد إلى صدور العراقيين. كما سطّر مأساة شعب تتعاقب الحروب على أرضه، فتمزّق بين الوطن والغربة، بين الهنا والهناك. تفكّر غالبيّة الشخصيات بالهنانك، هي مسلوخة عن محيطها، تحلم بمكان آخر مختلف حتّى ولو كان معسكرات الأسر الإيرانية، في ظلّ احتلال يصبح الخروج من المنزل انتحاراً محتملًا «على يد العصابات المسلّحة المنتشرة في كلّ مكان».(ص.199)
السفير