سوف تظل الحارة تحمل تاريخها على جدرانها، سوف تظل شاهداً على التاريخ، تغري الكتاب والقراء على تناولها، فهى الحارة الوحيدة التى تضم المعبد والمسجد والكنيسة وكذلك مرتاديها، كما يتخللها أكثر من 350 شارعاً، كل شارع منها يملك ما يجعله حياً كاملاً بشخوصه وأحداثه خاصاً.
إنها حارة اليهود التى تتفرع من شارع الموسكي الشهير والتى تتبع حى الجمالية، وهي ليست مجرد حارة، فهى حارة تضم ما يقارب 350 شارعاً صغيراً بعرض قد لا يتجاوز المتر الواحد وتمتد لمسافات كبيرة متداخلة، ويقال إنها كانت تضم نحو ثلاثة عشر معبداً، جمعت هذه الحارة بين أبناء الديانات الثلاث اليهودية والمسيحية والإسلامية.
هذه المعابد الثلاثة عشر لم يتبق منها سوى عدد قليل، أشهرها معبد «موسى بن ميمون» الذي كان طبيباً وفيلسوفاً شهيراً في بدايات القرن الثاني عشر الميلادي، وكان مقربا من السلطان صلاح الدين الأيوبي، ويقال إن بداخل المعبد سرداباً يقود إلى الغرفة المقدسة، وفي طقوس اليهود من يدخل هذا السرداب يجب أن يكون حافي القدمين.
أما المعبدالثاني «بار يوحاي» فيقع بشارع الصقالية وهو قائم منذ العصور الوسطى، وكان اليهود يعتبرونه المكان الذى كان يجلس فيه موسى عليه السلام. بينما الثالث في درب نصير وهو معبد «أبو حاييم كابوسي».
فى تعداد سنة 1948 اتضح ان مصر بها 10 آلاف يهودى يحملون الجنسية المصرية و30 ألف يهودى يحملون جنسية أجنبية و40 ألفاً غيرهم لا يحملون أى جنسية. وعلى هذا طلب حاخام اليهود الأكبر فى مصر وقتها «حاييم ناحوم» 1872-1960 من اليهود الذين لا يحملون جنسية أن يطالبوا بالجنسية المصرية.
أما الآن فلم يتبق من اليهود الذين كانت تكتظ بهم الحارة حتى قيام ثورة 23 يوليو 1952م، سوى 80 يهودياً فقط، بينما كان عددهم يفوق 150 ألفاً عام 1939.. وتقلصوا تماماً نتيجة الهجرات المتتالية بعد حربي 1948 و1956.
لا يستطيع أحد ألا يعترف بالدور الذى لعبه يهود مصر على مر التاريخ فى الحياة المصرية، والذى كان يعد دوراً حيوياً ومهماً، وأنهم كانو دائماً جزءاً من نسيج المجتمع والثقافة المصرية، وخرجت منهم شخصيات كبيرة مثل «قطاوى باشا» وزير مالية مصر ورائد المسرح المصرى «صنوع يعقوب» والذى اشتهر بـ «أبو نضارة» والذى كان يصدر جريدة مصرية وطنية تسببت فى أن يأمر الخديو إسماعيل بنفيه. والمخرج «توجو مزراحى» والممثلة «ليليان ليڤى كوهين» اللى اشتهرت باسم «كاميليا»، و«راشيل إبراهام ليڤى» اللى اشتهرت باسم «راقية إبراهيم» والممثلة «نجمة إبراهيم» والتى قدمت مسرحيات تبرعت بدخلها للجيش المصرى، و«نظيرة موسى شحاتة» والتى عرفت باسم نجوى سالم وكانت الفنانة المصرية الوحيدة الحاصلة على درع «الجهاد المقدس» عن دورها الوطنى فى حرب الاستنزاف، والمحامى المشهور «مراد فرج» والمغنية الكبيرة «ليلى مراد» وغيرهم. هذا غير عدد كبير من المحلات الشهيرة فى مصر منها شيكوريل، وشملا، وعدس، واريكو، وبنزايون.
فيقول الدكتور «محمد أبو الغار» مؤلف كتاب «يهود مصر بين الشتات والازدهار» إن اليهود المصريين الاصليين هم الذين عاشوا فى مصر جيلاً بعد جيل وتحدثوا اللهجة المصرية واكتسبوا العادات المصرية وتسموا بأسماء مصرية، وأن اليهود القرائين وعدداً من اليهود عاشوا فى مصر قروناً طويلة وكان منهم الفقراء ومتوسطو الحال وعدد من الأثرياء.
يتكون يهود مصر من طائفتين رئيسيتين، الطائفة الأولى «الربانيين» والثانية «القرائين». والفرق بين الطائفتين يتركز بشكل أساسى حول المناسبات والأحكام الدينية اليومية مثل أحكام «السبت» والتقويم. فطائفة القرائين تعتمد على التقويم القمرى والربانيين على الحساب، وعلى هذا فرأس السنة اليهودية يختلف بين الطائفتين.
تمثل طائفة الربانيين العدد الأكبر فى يهود مصر والعالم ويطلق عليهم أحياناً «التلموديين»، وأتباع هذه الطائفة يؤمنون بكتاب العهد القديم بأسفاره التسعة والثلاثين بجانب التلمود الذى يتضمن 63 سفراً (كتاب) وهو ينقسم لقسمين: «المشناة» و«الجمارا» وفيه شروح التوراة وأبحاث عن الدين اليهودى والتاريخ الدينى والقوانين التى كتبها حاخامات اليهود، ويؤمن اتباع هذه الطائفة بأن التوراة التى نزلت على موسى قسمان: توراة مكتوبة وتوراة شفوية.
أما طائفة القرائين، فقد نشأت فى القرن الثامن، ومعظم المنتمين لها كانوا من الطبقة البسيطة وتواجد معظمهم فى «عطفة اليهود القرائين» فى القاهرة واندمجوا مع المصريين المسلمين والمسيحيين وذهب أولادهم إلى المدارس المصرية العادية، وكانت لهم إصدارات خاصة بهم مثل جريدة «الكليم» التى كانت تناقش المواضيع المصرية والوطنيه. والقرائين يختلفون عن الربانيين فى أنهم يؤمنون بالأسفار الخمسة الأولى فى العهد القديم، لكنهم لا يؤمنون بالتلمود ويعتبرونه كلام بشر، وتعتبر طائفة القرائين أكثر طائفة يهودية مندمجة فى الحياة المصرية مع المسلمين والمسيحيين المصريين ولا يختلفون عنهم غير فى الممارسات الدينية فقط.
بغض النظر عن الاختلافات الدينية بين يهود مصر كان هناك أيضاً انقسام عرقى يتلخص فى وجود عنصرين من اليهود، السفارديم وهم اليهود الذين هاجروا إلى مصر من اسبانيا والبلاد الشرقية، وهناك يهود «الاشكيناز» وهم من جاءوا إلى مصر من أوروبا بسب الاضطهاد، وأغلب هؤلاء اعتبروا مصر محطة للوصول لفلسطين.
هذا عن اليهود فى مصر فى العصر الحديث أما إذا عدنا إلى العصور الوسطى، فسوف نجد أنه كان يوجد فى هذه الفترة ثلاث طوائف هى الربانيين والقرائين والسامرة (أو السمرة). والربانيين كانوا هم الغالبية. وكان سلطان مصر فى العصر المملوكى هو الذى يوقع على ورق تنصيب رؤسائهم. فى هذه الفترة، كانت المعهود أن رئيس الربانيين يكون رئيساً على الطوائف الثلاثة، وكانت مهمته الحكم بين اليهود على حسب شريعتهم. والنصوص السلطانية من العصر المملوكى الخاصة بتنصيب رؤساء اليهود توضح أن اليهود كانوا يعيشون فى مصر فى أمان واحترام، وفيما يخص الأحوال الشخصية كانت بتسرى عليهم قوانين شريعتهم.
وهذا نص توقيع سلطان مصر لتنصيب رئيس لليهود يقول فيه: «أما بعد حمد لله الذى جعل ألطاف هذه الدولة القاهرة تصطفى لذمتها من اليهود رئيساً فرئيس وتختار لقومها كما اختار من قومه موسى، وتبهج لهم نفوساً كلما قدمت عليهم نفيساً.. ورسم بالأمر الشريف -لازال يختار فيجمل الاختيار، ويغدو كالغيث الذى يعم بنفعه الرُبا والوهاد والأثمار والاشجار- أن تقوض إليه رئاسة اليهود على اختلافهم: من الربانيين، والقرائين، والسامرة بالديار المصرية حماها الله وكلاها».
و فى نص آخر يقول سلطان مصر فى وثيقة تنصيب رئيس سامرى: «وليحكم فى طائفته وفى انكحتهم ومواريثهم وكنائسهم القديمة المعقود عليها بما هو فى عقد دينه، وسبب لتوطيد قواعده فى هذه الرتبة التى بلغها وتوطينه».
الوفد