العجيلي: الذين يخافون الحياة يتحولون إلى وحوش




*عبدالله مكسور

في مدينة الرقة السورية وُلِدَت الروائية وأستاذة الأدب العربي الدكتورة شهلا العجيلي، التي التقتها “العرب” بمناسبةِ صدور روايتِها الأخيرة “سماء قريبة من بيتنا”. بداية تحدثنا إلى الكاتبة عن مدينتِها الواقعةِ على كتِفِ الفرات العظيم حيث تعرَّضت هذه البقعةُ الجغرافية للغمرِ في أوقاتٍ سابقةٍ، واليوم تتعرَّضُ لتغيير وجهها بالكامل، وعن رؤيتِها للمكان الذي غادَرَتهُ جغرافياً في وقتٍ مبكِّر لتعودَ إليهِ مراراً في نصوصها الروائية، تقول ضيفتُنا إنَّها لا تستطيع في هذه اللّحظة التاريخيّة أن تفصِلَ نفسها عن المكان.

البيت الكنائي
تقول شهلا العجيلي: سابقاً حينما كنت قريبة من مدينتي، تمكّنت من رؤيتها بعين الناقد، لكن مع النكبة الأخيرة تغيّرت الرؤية، صار عليها أن تحتويهِ و تحمِلهُ معها إلى كلّ مكان للحفاظِ على صورته المبهجة التي كانت، وكأنها مهمّة رسوليّة.
تؤكِّدُ العجيلي أنَّها لن تدَعَ المكانَ يهرب منها أبداً، فهو الدليل الدامغ على حياتها السابقة في صورةِ الرقَّةِ المنذورةِ لليباب وأهلِها الذين قاوموا عداء كلّ من التاريخ والجغرافيا، هي تصفُ حالتها اليوم بأنَّ جذورها تؤلمها، وأنّ ألم الجذور صعب للغاية، والكتابة -عندها- في هذه الحالة لا تشفي، حيثُ تنعقد في كلّ مرّة الخيوط الدراميّة بطريقة تزيد من حدّة التراجيديا.
كتبَت العجيلي عن الرقّة ثلاثة وجوه تراجيديّة، ففي “عين الهر” كتبت عن الفساد في ما أسمتهُ “مدينتي”، وفي “سجّاد عجميّ” احتفلت بتاريخها الملوّن والعامر بالحياة، في القرن الثالث الهجريّ ضدّ نذر الموت حينَ كانَ الخرابُ يلوحُ بالأُفُق، أما في روايتِها الأخيرة “سماء قريبة من بيتنا” فقد تناولت الأكثر خصوصيّة، عن الرقّة التي شكَّلَتها نفسيّاً أكثر من الجغرافيا المحتومة، عن بيتها، منذ نهاية القرن التاسع عشر إلى اليوم، ذلك البيت الكنائيّ، حيث تجوبُ العالم ثمَّ تعودُ إليهِ كمحاربٍ تعِبَ من جولاتِ القِتال، مثل أوديسيوس، هكذا تقول، تلكَ العودة باللغة والصورة، فالمكانُ لديها أكثر ثباتاً من أبعاد الوجود الأخرى رغمَ العنف البشريّ ومحاولاتِهِ تغيير أرسخ المسلّمات التي آمنّا بها.
الأيديولوجيا والواجب
حديثُها عن العنف البشري دفعنا لسؤالِها عن هويَّتها وانتماءاتِها في ظل زمن سقوط الأيديولوجيات بكل أشكالِها، لتقول إنَّهُ لا يمكن للمرء أن يشرح خريطته القيميّة في ظلّ نسق سرديّاته الكبرى ملفّقة. بالنسبة إليها هي لم تنضوِ تحت جناح أيّة أيديولوجيا بالمعنى الإبستمولوجي للمفهوم. مع ذلك حين توالى سقوط الأيديولوجيّات الكبرى منذ الثمانينات ثمّ التسعينات أخافها المجهول، ولم يكن أمامها سوى أن تتلقّى تغيير العالم بيقين بارد، فهو شيء أشبه بالقدر -هكذا تصفُهُ- مثلهُ مثلَ الوعي بالفرق بين طوباويّة النظريّة، وسوء التطبيق.
العجيلي تعرفُ في يقينِها أنَّها تنتمي إلى هذا الشرق المعذّب، وإلى ثقافة عربيّة إسلاميّة طبقيّة في تطبيقها وخطابها، في مزيجٍ من تشكيل الأفكار القوميّة، واليساريّة التي أفرز كلّ منها ضحايا وجلاّدين، في ذات الوقتِ، هي تنتمي إلى عالم منفتح وحداثي تحاولُ فيه أن تقاوم فكرة الاستسلام للأرقام عبر الكتابة والتدريس الأكاديميّ، والعائلة والأمومة، وغيرها من الأفعال الإنسانيّة.
تتابعُ أستاذةُ الأدب العربي قولَها: إنّ أيّة أيديولوجيا أو نظريّة ما لم تخضع لمنطق يتمثّل في فكرة الحقّ والواجب والقانون، ستتحوّل إلى طغيان، مهما نادت بالعدالة والتنمية وتكافؤ الفرص وحريّة التعبير. هذه الانتماءات كلّها يمكن أن توضع تحت عنوان عريض هو الهجنة الإيجابيّة، التي تشير إلى أنّك يمكنك أن تستقبل الرياح دون أن تقتلعك من جذورك الإنسانيّة القائمة على الحقّ والخير والجمال.
مثل هذه الهجنة تجعلك صبوراً، وقويا من غير قسوة، فالقسوة علامة على الخوف، والذين يخافون الحياة يتحوّلون إلى وحوش، في حين يكون الشجعان طيّبين ومحبّين. الهوية متحركة -هكذا تصفُها- ونحن نعيش حالة صراع بين الهويّة التي نصنعها لذواتنا، حيث يصير الشخصيّ هو السياسيّ، وبين الهويّة التي يفرضها الآخرون علينا بحكم المنبت أو الديموغرافيا أو الثقافة. تشكيل الهويّة عمليّة معقّدة لكنّ الهويّة بحدّ ذاتها فرديّة حينما يرفض صاحبها أن يصير ورقة لعب في يد أحد.
الهوية والأدب
أمام بيئاتٍ تُمحَى، معالِم تندثِر، أوطان تنهار، مُفردات جديدة تتصدَّر المشهد ، نسألُها عن تلكَ المفردات التي قام ويقوم عليها بنيان شهلا العجيلي الروائي والأدبي لتقول: إذا تحدّثنا عن الشكل الأدبيّ بالمفهوم البراغماتيّ، فيمكن القول إنّ المرحلة الراهنة من أكثر المراحل التاريخيّة الملهمة للكتابة، وللكتابة الروائيّة تحديدا، فالرواية في أصل النظريّة هي تسريد للعلاقات بين الأفراد في ظلّ تحوّلات كبرى، ولا بدّ لأولئك الأفراد من أن يكونوا إشكاليّين، وغير متصالحين مع هذه التحوّلات، منهم من ينفعل بها ومنهم من يقاومها، وبذلك تتمايز مستويات دراميّتهم، أي وفاقاً لوعيهم. وحينما يعجزون عن التغيير، ويسقطون في مصائر تراجيديّة ليدافعوا عن جمال عالم سابق تتحوّل الرؤية في الرواية إلى ما يشبه الرؤية الملحميّة. وبهذه الروح كُتبَت “سماء قريبة من بيتنا”، بروح هوميريّة، سورية بالنسبة إليها، كالأناضول بالنسبة لهوميروس، والرقّة هي طروادة بشكل أو بآخر.
تتابعُ العجيلي: إنَّ الوطنَ يتخذ أشكالاً مجازيّة، فيصير لغة، ويصير غرفة، ويصير جسداً وهذا هو التجلّي الأكثر خصوصيّة. فحينما يخضع الجسدُ للتهديد بالقتل أو التشويه أو السرطان، يصير الوطن الأوحد. تحكي الرواية العربيّة في هذه المرحلة حكايات البشر المستظلّين بالخراب، البعض تقتصر نصوصه على محاكمات تاريخيّة وأخلاقيّة. لكنّ محاكمة الموتى في اللحظة الراهنة حالة عبثيّة ومملّة، لكن يجب أن نكتب، على الرغم من أنّ الصوت البشري تطمسه أصوات الأسلحة، والمبعوثين الدوليّين، وأصحاب رؤوس الأموال الدمويّة، لكنّنا سندّخره للمستقبل، حينما يكون العالم مستعداً ليصغي إلى صوت الفنّ والجمال الذي يحمل الرواية الأخرى المغيّبة، وإن لم يكن، فسيتحوّل أثر ما نكتب إلى ما يشبه أثر السيرة الشعبيّة أو التغريبة، التي سترافق القادمين في مرورهم بهذه الحياة.
هذا الخراب القريبُ والمسيطرُ قادَنا إلى الحديثِ عن الدورِ الذي يقعُ على عاتق المثقَّف والأكاديمي في ظلِّ ما يحدُث، لتؤكِّدَ ضيفتنا أنَّ دورَ المثقّف دورٌ تاريخيّ لا تصنعه اللحظة أياً كانت حدّتها أو حساسيّتها بشكلٍ واضح مبنيّ على معطيات معرفيّة، ومحاكمات عقليّة، لا على عواطف وعصبيّات. وفي هذا الإطار سيكون الرأي مفتاحاً تنويريّاً، الرأي لا يؤذي، الذي يؤذي هو الفعل العنيف. الثقافة في أحد تعريفاتها هي طريقة حياة الأقليّة في مقابل الأكثريّة، والمثقّف هنا ينتمي إلى أقليّة سمّيت أحياناً بالنخبة، هذا يعني أنّ رأيه ليس رأي المجموع، ولا بدّ من وعي فرديّ يمتلكه، فينحاز به عن وعي المجموع، ولهذا الوعي ضرائب فادحة.
بالنسبة إلى شهلا العجيلي إنّ تحوّل المثقّف إلى سياسيّ يعني تغييب نصف الحقيقة، وتغييب الغفران، والخضوع للمكتسبات، والتوقّف عن الرؤية الرومانسيّة. نحن، حسب رأيها، لم نشهد إحقاق الحقّ وانتصار الخير والجمال والعدل ولا مرّة واحدة، لكنّنا لا نستطيع إلاّ أن نؤمن بها بوضوحٍ كبيرٍ، فالمثقّف حينما يتحوّل إلى سياسيّ على الأرض، سيتصرّف من الراهن بخياراته العنيفة والبراغماتيّة، وسيسهم في تعميق المآسي الفرديّة، في ظلّ المأساة الجماعيّة التي هي أكبر منه، وسيكون له دور إجرائيّ في تفعيلها، لكن ليس له أيّ دور في إيقافها.
الاتِّجاهُ نحوَ نصٍّ فريد يستوعِبُ الأحداث في البلدان العربية اليوم يتوقَّفُ على علاقة الكاتب باللّغة أصلاً كما ترى ضيفتُنا، ليس مطلوباً من الكاتب أن يقول كلّ شيء، لكن عليه أن يقول الأشياء ببلاغة، وأن ينتقي الحكايات الأيقونيّة، والحوارات الديمقراطيّة الدالّة، بعيداً عن تكرار الوقائع، التي يمكنه أن يستفيد منها، بترتيبها وفاقاً لرؤية جماليّة لا أيديولوجيّة. كلّما اتسعت الثقافة، كانت اللغة أكثر طواعيّة -هكذا ترى أستاذةُ الأدب العربي- وكلّما زادت المعرفة اللغويّة زادت جرأة الكاتب على الاختزال. اللغة القادرة تساعد على الشفاء من غلوّ الرغبة في الإحاطة بالواقع الصعب.
تضيفُ العجيلي: المثقّفون في حالة انكسار، وليس ثمّة قضايا جوهريّة أو مستجدّة يتمّ طرحها، والشغل في معظمه على الأشكال، لا سيّما أن مراكز الثقافة العربيّة في معظمها معطّل، وهناك الكثير من الجفاء الإنسانيّ بسبب الاصطفافات السياسيّة غالباً، بالرغمِ من ذلك هناك شعورٌ بحالة من الصدق العميم، إذ سقطت الأقنعة الثقيلة، وصار المثقّفون أكثر بساطة وتحرّراً.
عن الدور الذي لعِبَتهُ الثقافة في صناعة الموت خلال الأحداث الأخيرة، تقول الكاتبة: إنَّ الثقافة ضدّ الموت، والمثقّف الذي يعتقد أنّه الذي قرّر بدء المعركة أو أنّه يستطيع إيقافها واهم. هناك قوى أكبر منه، وقد قامت أصلاً على تهميش دوره، وهي التي ستحسم المعركة. أهمّ ما يمكن أن يفعله المثقّف هو ألاّ يتحوّل إلى أداة لتحقيق مكتسبات الآخرين، فالحرب ليست مزحة، هناك دائماً دماء للأبرياء. تتابعُ العجيلي أنّ وجود جيل مثقّف يتوقّف على معنى الثقافة الذي نقصده، فالاستسلام للأيديولوجيا نوع من أنواع الاستلاب الفكريّ.

سماء قريبة من بيتنا
عن روايتِها الأخيرة “سماءٌ قريبةٌ من بيتِنا” تقولُ إنَّها تحكي عن مصائر تراجيديّة لأفراد يعيشون في ظلّ تحوّلات كبرى سبّبتها الهيمنات الاستعماريّة منذ القرن التاسع عشر إلى اللّحظة الراهنة، عبر ملاحقة تاريخ العائلات التي تناسلت منها، في سوريا وفلسطين والأردن وأوروبا الشرقيّة وأفريقيا وفيتنام وأميركا الجنوبيّة، وشرق آسيا. حكاياتهم تفصح عن رغباتهم في الاستمرار في الحياة وإعلاء طابع المرح والسعادة، والتي تحاربها كلّ لحظة إرادات استعماريّة ودكتاتوريّة ودمويّة، تنتج الحرب والسرطان والموت. هانية ثابت، وجمان بدران، ويعقوب الشريف، ورشيد شهاب، ونبيلة علم الدين، وناصر العامري، يلتقون جميعاً في عمّان ليحكوا عن علاقاتهم ببيريكتش، وإبراهيمو، ويان، وكورين، وجون، والتي تمثّل العلاقات بين المستعمِر والمستعمَر، الممتدّة من كاليفورنيا إلى برلين، وبلغراد، ومومباسا، وهانوي، وحلب، والرقّة، ودمشق، واللدّ، وحيفا، ويافا، ويوركشاير، وكابول. تبدي تلك العلاقات خديعة المسافات، ومخاتلة الجغرافيا، من خلال تشابه أحزان البشر وعذاباتهم، وأحلامهم.
العنوان غريب، “سماء قريبة من بيتنا”، وكأنَّها تودّ القول: إن السماء هي المكان الأقرب للسوريين، لكن العجيلي تعتبر عنوان الرواية عبارة تتكرّر في أكثر من سياق، وعلى ألسنة شخصيّات عدّة، تبدأ بحوار طفوليّ بين بنتَين صغيرتين ستخلُدان إلى النوم في عليّة البيت المفتوحة على سماء الصيف في الرقة، وتتساءلان عن إمكانيّة الوصول إلى السماء، هل يكون ذلك بوضع السلالم، أم بحبل نتسلّقه بعد أن نرمي به إلى القمر.
تقول ضيفتنا: الأطفال في مخيّمات اللجوء يسألون أسئلة مشابهة، وكذلك مرضى السرطان، السؤال عن السماء وتحديد بعدها أو قربها يعادل البحث عن الأمان، وهؤلاء جميعا رغم مآسيهم لا يفقدون إيمانهم بالسماء.
_______
*العرب

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *