*لوركا سبيتي
قال زرادشت لأتباعه: «عندما عرفت الجسد أفضل، ما عادت الروح عندي أكثر من كلمة تقال». إذاً هل نعرف فعلا أجسادنا، هل قرأناها، هل ذهبنا إلى أبعد من كونها عجينة منتفخة بفعل خميرة الروح؟ الى أكثر من لحم ودم وانتظار مؤجل لشيخوخة ستأتي لاحقا؟ هل تلمّسنا العذوبة الطالعة من مسامها وتتبعنا الخطوط المرسومة على صفحاتها لنصل الى الحقيقة؟ يقول البعض ان الجسد هو الحقيقة الوحيدة التي نملكها ونستطيع أن نفعل بها ما نريد، نروّضها نريّضها نوشمها ندللها ونعطّرها. والبعض الآخر يراه الوهم المدنس الخاطئ ولكي يرتقي بالروح عليه قمع غرائزه وكبت أهوائه والابتعاد عن الخطيئة التي يجرّ اليها الجسد. أليس الجسد هو قرارنا الحرّ الذي لا يستطيع من هو خارجنا ان يأخذه عنّا. ألن ندفن معا ونعود لنحيا في دورة الحياة المستمرة على شكل كوز تين يأكله عصفور أو وردة يلقحها هواء؟ فلنترك ابوابه مشرعة للاحتمالات. الجسد عقلنا الكبير وقلبنا الرحب، والنقيض ذو المعنى الواحد، الفرح والحزن، السطح والعمق، الفراغ والامتلاء.
المبدعون الكسالى
نادرا ما نلتقي بكاتب أو شاعر أو روائي أو رسام أو موسيقي يعتني بشكله الخارجي ويهتم بجسده ويحافظ على رشاقته وعلى صحة سليمة، ان كان من خلال ممارسة التمارين الرياضية أو اتباع نظام غذائي أو فلنقل الاهتمام بالثياب والموضة. تعوّدنا على المبدعين المدخنين والمترهلين والكسولين الذين يهتمون فقط بالسماوات السبع أي بعقولهم، فيمّرنون عضلاتها عبر القراءة والكتابة والتخيّل. ذاكرة قوية وأفكار غزيرة وصور مدهشة وحواس لا تعدّ وأسلوب كلامي جذّاب، ولكن علاقة ملتبسة وغير صحيحة مع أجسادهم التي هرمت قبل أوانها لكثرة استهلاكها كما العلكة تهترئ من أسيد الألسنة. ونلاحظ ان أكثر الذين غيّروا نهجهم العبثي في الحياة وقرروا الاهتمام بهذا الجانب وبدأوا بممارسة الرياضة مع تناول الطعام الصحي والتوقف عن التدخين والتقليل من السهر ومن المشروبات الكحولية، لم يفعلوا هذا لأنه خيارهم الحرّ بل لأن جسدهم أعطى الإنذار الأخير، والقطار لا ينتظر إلا من ينتظره، وأكثرهم يخاف الموت. (طبعا وحتما دوما هناك استثناءات). يبوح بعض المبدعين هنا بخلجاتهم، كيف يفهمون أجسادهم وكيف يعيشون معها إهمالا أو اهتماما.
الشاعرة المصرية «علية عبد السلام» ترى انه لا يمكننا ان نحكم على مواقف الكاتب من العالم من دون أن نبحث عن الروابط الخفية التي تدير شؤونه الخاصة جدا مثل طعامه وأسلوب عنايته بجسده. تسأل الشاعرة: «كيف يحدثني شاعر عن الجمال وكلما اقتربت منه شممت رائحة منفرة؟ وكيف يحدثني أحدهم عن أرقه الملاصق للعملية الإبداعية وأرطال الدهن في جسده يعجز أي ميزان منزلي أن يحملها؟». لا تحب شاعرتنا أن يراها أحد إلا في أحسن صورة تتخيلها عن نفسها، اهتمامها بجسدها قديم فهي تتبع ظاما غذائيا منذ زمن ولم تعد تستسيغ التهام اللحوم بجميع أنواعها. تشتري الخضروات الطازجة وتجد في رحلتها الأسبوعية الى السوق رياضة ومتعة لا يمكن الاستغناء عنها بين ألوان الفاكهة وأصوات الباعة التي تجد فيها طرافة تجعلها مبتسمة طوال اليوم. تعترف بهوسها بقناع الخيار والعسل بالليمون للبشرة، وتشرب عصير الجريب فروت كل صباح على معدة خاوية وأكثر من ثمانية أكواب ماء يوميا. تحرص على المشي صباحا ومساء للتخلص من السموم الضارة. صاحبة كتاب «موت من أحبوني» تفعل كل هذا ليس خوفا من الموت بل هي تريد الذهاب اليه بكامل صحتها وبخفة فراشة. هل تروّض جسدها أم تقمعه؟ تجيب «علية» ان للجسد رغبات لا يمكن ترويضها وليس المطلوب كبحها. هي لا تؤمن بما يسمى الخطيئة وترى أن كل ما ترضاه النفس ويقبله العقل ويستريح له الضمير هو حق مباح. «لكل منا بصمة عقلية وذهنية مثل بصمات الأصابع لا يمكن تكررها، ولكل نفس منا وجود وعالم خاص بها». عن الموضة لن تزعم بأنها من متتبعيها ولكنها ترتدي ما يناسب شخصيتها.
عناق جسدين
يعترف الشاعر المغربي «محمد بنميلود» بأن علاقته بجسده سيئة للغاية، حتى أنه يشعر في بعض الأحيان بأنه شخصان، هو وجسده. يقول: «أنا هو من يفكر ومن يقدر ومن يريد ومن لا يريد بينما جسدي شخص آخر لا علاقة له بي، وعليّ أن أطعمه وأحممه وأريّضه وأنقله من مكان الى آخر كشخص غير مرئي يعتني بمعاق». نادرا ما يحس «محمد» بذلك التناغم بين جسده وفكره، وفي الغالب يكون الجسد هو الصحيح في هذه العلاقة غير السليمة، النتيجة تكون تعذيبا لهذا الجسد عوض مصادقته بإخضاعه القسري للسهر والكسل والخمول الحركي في مقابل نشاط غير طبيعي للتفكير والهواجس والقلق. يبوح بنميلود بأنه مع الوقت اتسعت الهوّة بين جسده وفكره فصارا كغريبين في ذات المكان. «حين أرى جسدي أمام المرآة أشعر أنه لشخص آخر، لا يمثلني بتاتا». حينها فقط يفكر بتغير أسلوب الحياة بممارسة الرياضة والنوم الباكر والأكل الصحي يخطط لهذا الأمر ويعزم على تنفيذه بصرامة، ولكن في اليوم التالي يجد نفسه يمارس رياضة وحيدة هي التدخين والكسل والتقاعس والكتابة والسهر حتى الإجهاد. يحب شاعرنا المغربي الثياب ولكنه كلما ارتدى شيئا أنيقا يجده غير مناسب له فيحقد على الأناقة ويعوضها بعكسها: ثياب متنافرة الألوان، شعر غير مرتب، لحية طويلة ويصبح لا مبالياً بمحيطه.
قصيدة مشتعلة
يرى الموسيقي «مارسيل خليفة» ان الحكاية كلها تختصر بكلمة واحدة «الجسد». هو لحظة شغف يصغي اليها تكسّر شوكة ضجره من الواقع وخوفه منه «أريده دوماً كقصيدة مشتعلة» يقول. فكرة موت الجسد غامضة، يحب أن لا يصدقها وان لا يفكر بها. يرى مارسيل ان الإجابات الجاهزة الغيبية التي تطرحها علينا الاجتهادات البشرية ليست فقط غير مقنعة ولكنها غير مطمئنة. «عندما يحضر الجسد أكون مستعجلا على كل شيء وأفترس الريح» هكذا يبتعد عن كل الهواجس البالية. تعلقه بالجسد، جسده أو جسد الحبيبة أو جسد الأشياء تكون على الشكل التالي «أحرق يديّ الذاهلتين بالجسد الشهيّ، الجسد الأُخذة، الجسد الجائع للذوبان، هو عذب كضوء سراج مالح كالدمع». يبوح خليفة بأنه يرى الجمال كلّه في جسد. يسمع جسده ويشعر به ويصغي الى إيقاعه ويتأمله بقوة خارقة وينفذ اليه ويرفعه. ويسأل: «من أين يصعد كل هذا النور الذي يعطي للوجود هذا الإله الصغير على الأرض»؟. يغني ويعزف ويهمس ليرقّصه ليطفئ ظمأه، ليتهاوى فوقه، وعاءً للروح، فوق جسد حرّ من سلاسل الواقع، حرّ بانفلات نشوته من هذه السلاسل لينجدلا سويا في حوار حميم. المغني والملحن يعتني بجسده جيدا فيمارس الرياضة اليوميّة، كما يهتم بأناقته كما هو ظاهر، والصحة بخير يطمأنني، ولكنه يتوقف هنا ليؤكد ان هذا الجانب لا يهمه لأنه يخرّب النص ويصبح الموضوع تقريريا، وهذا ما لا يحبّه في لغة الجسد. أما عما اذا كان من متتبعي رياضة معينة فيجيب حاسما: «أجمل ما في هذا الوجود عناق جسدين، وإصغاؤهما بعضهما لبعض، هذا المشهد أجمل من أجمل لعبة كرة قدم».
الروائي السوداني «أمير تاج السر» يرى أن امتلاك الشخص للأفكار ومحاورتها، والخروج منها بنصوص فلسفية أو إبداعية أو تنويرية ليس سببا أو مبررا لأن يكون مهملا لجسده. ويعلل سبب ابتعاد الكثير من المبدعين في عالمنا العربي عن الرياضة بالرغم من الإبداع والتفوق وتحقيق الشهرة، الى الوقت الذي لا يتسع ليعيش المبدع حياة جيدة، تمكّنه من التفرغ للإبداع ومن ممارسة الرياضة في آن، وحضور الفعاليات الثقافية بانتظام، والمشاركة في أنشطة اجتماعية. الكاتب هنا يقضي ساعات طويلة في الوظيفة التي يعتاش منها بعكس المبدعين عموما في أوروبا الذين يملكون الوقت الكافي للاستمتاع بالرياضة، نفس استمتاعهم بكتابة القصيدة أو الرواية. صاحب رواية «صائد اليرقات» يعمل في وظيفة مرهقة، فهو طبيب، ولا يجد وقتا للتريض بانتظام، ولكنه يمارس المشي حين يسافر للخارج. لا يخاف الموت وكل ما قام به للمحافظة على بقائه ليس خشية منه بل اختبارا للإرادة. يقول: «أقلعت عن التدخين الذي كنت أحبه بشدة، ويساعدني على الكتابة، اختبرت نفسي ونجحت». اذاً لـ «أمير تاج السرّ» إرادة قوّاها وروضها ليس بغرض معاقبة جسده بل لضبط الإرادة وجعلها مفعلة طوال الوقت. يعترف مبدعنا بأن الجسد هو الشيء المتاح للإنسان، بمعنى أنه تحت يده ويعرفه، ويستطيع أن يفهم لغته جيدا، لذلك يسهل التحكم فيه، وجعله رشيقا أو بدينا، صحيحا أو معتّلا، مستقيما أو محطما. «أحاول قدر الإمكان أن أستفيد من مسألة التحكم هذه، لكن تفلت المسألة أحيانا، ولا أجدني متحكما في شيء».
الفنان وجسده
«فاطمة عبدالله لوتاه» الرسامة الإماراتية المقيمة في ايطاليا، تمشي حافية كل صباح على الحشائش الخضراء في حديقة منزلها، هذه هي رياضتها اليومية. تقول بسلام يبان في صوتها: «حين أمشي أتنفس نور الله بعمق، هذا ما يعطي جسدي طاقة للإبداع، وروحي إصرارا على خلق كل شيء جميل». لا تؤمن فاطمة بوجود هوّة بين المبدع وجسده، وهي تتعجب مما يقال عن ان العلاقة بين الاثنين ملتبسة، ففي اعتقادها أن المبدع يعتمد على فكره وجسده كي يعطي، وعليه ان يلتقي روحه كي تحدث لحظة الإبداع، فيكون إبداعا من نور. رسامتنا نباتية منذ 25 سنة، والسبب واضح وصريح ولونه يشبه ألوان لوحاتها. «لم أعد أحب رؤية الدم فيوجد منه في حياتنا ما يكفي». تحاول ان توازن كلها بين الثلاثي «جسد وعقل وروح»، فجسد خفيف وعقل صاف وروح تبحث عن اللقاء بالنور، هذا ما تطمح للوصول اليه. وماذا تقصدين بالخفة؟ تجيب: «خفة في الحركة وفي الخلق وفي الكلمة ايضا واختيار الصمت». اذا تأملت لوحات فاطمة لوتاه فسترى ان جسد المرأة هو الموضوع الأول والأخير، وحتى ملامح الوجه محتها، أتراها تحاول من خلال لوحاتها جعل جسدها أبدياً؟ حين بدأت ترسم في الثمانينيات كمحترفة كان جسد المرأه هو حوار قماشاتها، تحدثت عن جمالها وبالغت في قوتها وحكت عنها كضحية لمجتمع أكرَهَها جسدها بعد كل العنف الممارس ضدها. وفي ما بعد بحثت عنها في دواخلها فبدأت أعمالها تحاور تلك الأنثى بتوازن. تحاول فاطمة زرع الجمال من خلال فنها وعليها ان تكون مصدراً له قبل كل شيء. هل خذلك جسدك؟ تجيب: «لا أعرف اذا كان ذلك ام لا، لكني خرجت من قبل شهرين من تجربة عنيفه بعض الشيء». مرضت بسرطان أصابها في ثديها وربما عاشت ما لم تتوقعه، ولكنها اقتنعت بأن هذا الألم كان لا بــد من المرور به. ما زالت تحب هذا الجسد، فكــيف تغضب منه وهو المحرك والاعتماد عليه في عملية الخلق. تسأل فاطــمة لوتاه بحرقة: «أجسادنا الآن معرضة للكثــير من المصاعب في شــرقنا العربي المحطم، أطــفال أيتام، نســاء تباع في الأسواق، فكيف على الأجساد التحمل؟».
«الجسد هو الأداة التي من خلالها ينفّذ الفنان أفكاره وإبداعاته» هكذا بدأ الرسام العراقي «جبر علوان» حديثه. لكي يرسم لوحة يقف ساعات طوالا على قدميه ويستعمل لساعات طوال يديه. تلتصق الريشة بجسده وتماهيه فيصيران واحدا. والألوان مرآة لما يعتريه وما يخالج نفسه من انفعالات. فيتوحد الجسد وساكنوه في حالة إبداع وتولد اللوحة. لا يتذكر علوان بأنه رسم وهو متوعك، يذهب الى الرسم بكامل طاقته وأناقته، يستحم ويحلق ذقنه ويتعطر كأنه ذاهب للقاء الحبيبة. وبمزاج جيد يصل لخوض الحوار الضبابي مع القماشة والألوان والذي ما يلبث ان يستحيل واضحا ومفهوما.
مارس في ما مضى التمارين الرياضية مثل السباحة والمشي، ولكنه توقف الآن بسبب الكسل والتقدم في العمر. «جبر» لا يخاف من الموت بل من شيخوخة عليلة، لذلك يعتني بجسده فيغذيه ويهتم بصحته ويحاول ألا يرهقه إلا في ما يريد هو نيتشه يقول: «نحن نملك الفن حتى لا نموت من الحقيقة». والمبدعون بأكثرهم يعتبرون الفن أحسن وسيلة لمواجهة الوجود المأسوي والغامض. الفن يزوّر الحياة. والجسد وجود بالفعل، وزمن يمضي ليصل الموت، لذا من الطبيعي ان يبتعد الفنان المبدع عن جسده، عن هذه الحقيقة المهولة التي تمشي وتتذكر وتولد وتميت نفسها في كل لحظة. وطبعا ودوما ليس هناك من أمر محسوم وقد تثبت الاستثناءات انها القاعدة نفسها.
________
*السفير