*د. شهلا العُجيلي
تحاصرنا الخيارات المُرّة، التي قد يكون أهونها أن نحمل حقيبتنا ونسافر. لقد اتخذت أوطاننا ذاتها شكل حقائب من الذكريات، لا نعرف إذا ما كانت ستعود سالمة أو مهشّمة! رحل كثر، ونظرتُ إلى حقائبهم، وكلّما كان الرحيل سريعاً في ظلّ الموت المحيق كانت الحقيبة أصغر، تضيق حتّى عن صور الأحبّة، لتقتصر على أوراق رسميّة وشهادات، ومبالغ نقديّة ستقيم أود الأيّام الأول في المكان الجديد.
حقائب اليد الشهيرة التي تخصّ الهاربين من الحرب، لا تشبه سوى في مفهوم الاحتواء، الحقائب الشهيرة التي عرفها تاريخ تصميم الإكسسوارات، والتي كان لها مرجعيّتها الثقافيّة، ففي عام 1947 أطلقت دار أزياء غوتشي الإيطاليّة حقيبة يد نسائيّة باسم جاكي Jackie، تيمّناً بجاكلين كيندي زوجة جون كيندي، ثمّ أوناسيس. كما أطلقت دار هيرميس حقيبتها الشهيرة كيللي، على اسم غريس كيللي أميرة موناكو. وخلال زيارة الأميرة ديانا إلى باريس عام 1995، أهدتها سيّدة فرنسة الأولى، زوجة جاك شيراك، حقيبة من تصميم كريستيان ديور حملت اسم ليدي دي، Lady Di.
مؤخّراً قامت دار الأزياء الإيطاليّة بالين، بإطلاق حقيبتها الجديدة The Amal الأمل، لتخصّ بها المحامية البريطانيّة من أصل لبنانيّ أمل علم الدين، التي اقتحمت عالم النجوميّة من باب زوجها جورج كلوني.
نسي عالم الشهرة، الذي يستهلك ربع طاقة الضوء التي تمنحها الشمس للكون، إحدى أجمل الحقائب، ربّما لأنّه لا يحفر في العمق كثيراً، إذ على الرغم من أنّه اهتمّ بشغف بتقاليد المرحلة الإمبرياليّة وأزيائها وألوانها، ومنها ملابس السفاري، ولون الموكا، أهمل حقيبة آرثر رامبو! كان للشاعر الفرنسيّ الأشهر رامبو حقيبة جلديّة عتيقة، لم تفارقه أبداً، لونها بنيّ محروق، ومقبضها المعدنيّ قد علاه الصدأ، لها لون الريح، والذاكرة، والشعر، والرغبات الاستعماريّة البيضاء، في الأرض السمراء.
تعرض هذه الحقيبة في متحف رامبو في مدينته شارلفيل الواقعة في إقليم الأردين الفرنسيّ، وهي الحقيبة التي حملت روائع الشعر العالميّ: (فصل من الجحيم)، و(الإشراقات)، و(الرسائل)، والتي جاب بها رياح الدنيا: لندن، فيننا، مرسيليا، قبرص، الإسكندريّة، القاهرة، عدن، أقاليم الحبشة…مرّة يكتب قصائده، ومرّة يهجرها بحثاً عن الذهب. يدفعه حيناً التوسّع الإمبرياليّ لبلاده، و يروغ حيناً آخر من محاكمته العسكريّة بوصفه هارباً من الحرب، ومن الجنديّة، التي لاحقته رغم فجيعته بساقه التي بترت.
من حقّ رامبو أن يخلّد بحقيبة تختصر تاريخ العالم الاستعماريّ الجشع، الذي حوّلنا جميعاً إلى مسافرين، وحوّل أوطاننا إلى حقائب من الحنين، لا تشبه حقائب كيللي أو جاكي أو أمل، إنّها أشبه بحقيبة رامبو الذي قال مرّة في رسالة إلى أهله عن حال الجنود في الشرق: “الذين يردّدون في كلّ لحظة أنّ الحياة قاسية، ما عليهم سوى القدوم إلى هنا، لتمضية بعض الوقت، من أجل أن يتعلّموا الفلسفة”!
_____
*عمّان.نت