ممدوح فراج النابي
في رواية “قيس ونيللي” للروائي المصري محمد ناجي، والتي صدرت مؤخرا بعد وفاته، يعمد الرّاوي الغائب المسيطر على الأحداث في استهلال النّص، إلى استكمال خدعته الناجعة في حبك قصّة الحبّ بقوله «من أوّل نظرة، نعم من أوّل نظرة، ولن نجادل في ذلك لقد باركت شمس الشتاء المشهد بابتسامة رضى ساطعة، وطوقت الفتى بهالة نورانية دافئة وهو يختلس نظرته الأولى».
يهيّئ الكاتب أفق القارئ بأن ثمّة قصة حبّ سيسردها، لكن مع الأسف فهذه القصة التي مرّرها عبر بطليها نيللي وقيس، ليست إلا صورة لنتيجة الفقر المزري الذي أوقع الطرفيْن في حبك قصة خداع لجذب الطرف الآخر، بدأت بـ”التايير” والبدلة الخضراء، مرورا بالحقيبة السوداء والحوالة إلى إخفاء المهن الحقيقية.
هكذا كان الفقر الذي أرادت أن تتخلّص منه نيللي مذ أن هربت من قريتها إلى القاهرة متذرّعة بالدّراسة في الجامعة، دافعا بها إلى امتهان مهن مختلفة بدأت كفتاة راقصة خلف المطربين، وفي بعض الأوقات عاملة في كافتيريا، انتهاء بها إلى جليسة سمر لفنان يدعى بكري نافع وشهرته بيكو، حسبما كانت تناديه، فهي تعمل سكرتيرة وإن كانت تتجاوز ذلك لتهتم بشؤون الشقة وخدمة ضيوفه وغيرها من المهام.
كل هذا لم يفارق خيالها مسعاها الدائب في العمل كفنانة بعد أن حظيت بدور صغير عقدت كل آمالها في أن تلفت إليها مخرجا، ليسند إليها دورا كبيرا فتصبح الفنانة والنجمة كما كان يناديها جلساء السّمر في شقة بيكو.
هناك جامع مشترك بين نيللي الهاربة من الفقر واللائذة بحلم النجومية، وقيس الحالم بالصعود من عامل السويتش في جريدة أضواء الغد إلى العمل كمحرر، فيضيع حلمه مثلما ضاع حلم نيللي.فالأحلام مع بساطتها كانت نهايتها السقوط، لكن سقوط نيللي كان مع الأسف بلا ثمن، فقد باعت شرفها ليس لرجل غني كما كانت تحلم، وإنما في مقامرة، أقامها الأصدقاء أثناء الاحتفال بعيد الميلاد، فكانت من حظ عبدالله أبوشنب، سقوط الأحلام تتوازى مع سقوط العراق وصدام، وما تحمله الشعارات التي ردّدها من قبل، وهو ما يفسّر ما انتهى إليه مآل اللواء فادي الذي أطلق على ظله في المرآة رصاصات عدة، ثم أطلق الرصاصة الأخيرة على نفسه.
ثرثرة الشخصيات هي أشبه بثرثرة عوامة نجيب محفوظ حيث هي ثرثرة عن الفساد والسياسية، وهم أنفسهم يمارسون الفساد بعدما يقدمون نيللي كقربان لأبوشنب بعد ليلة صاخبة. مثلما انبنت الحكاية على خداع كما هو ظاهر ومثلما أوهم العنوان، انبنى الحبّ أيضا على خداع ساهمت فيه المظاهر، التايير الأزرق الذي كانت ترتديه نيللي والبدلة الخضراء التي كان يرتديها قيس، حتى أن الراوي يصوّر وقع التايير والبدلة وهما يسيران في شارع شريف هكذا «علينا أن نعترف بأن التايير الأزرق والبدلة الخضراء تألقا في العرض القصير بين شارع شريف وميدان التحرير، كانا جملة موسيقية بين قوسين في فوضى الشارع وضوضائه»، لكن مع الأسف ينتهي بهما الحال إلى بيعهما لبائع جملة في سوق الروبافيكا.
السخرية والواقع
لا تخلو الرواية من مسحة سخرية، تغلب على سردها الذي يتماهى في كثير من جوانبه مع هذا الخط السّاخر، فيأتي السّرد في كثير من مواضعه ليقدم سباقا حيّا بين الشخصيات في صراعها وزخمها، وهي في هذا تتكئ على لغة شريطها اللغوي الملتصق بواقعها المؤلم فيستحضر مفرداته بدلالاتها ذاتها دون أن يضفي عليها أية جمالية أو حتى يمنحها بلاغة كاذبة تخفف من ركاكة واقعها بل يتركها بعفويتها وطزاجتها وأيضا بفجاجتها المحببة، فتأتي السخرية من واقع مرير فادح.
مع قصة الحبّ الفاشلة التي هي انعكاس لواقع اجتماعي معقد، يقدّم لنا السّارد عبر تنقلاته الخفيفة، وتداخلاته مع حكايات لا يبدو لها تأثير في الصّراع الدائر بين الشّخصيات المحورية.
لا تخلو كتابات الرّاحل من تمرير للخط السياسي لانتقاده وهو ما مرّره هنا عبر علاقة الأشخاص الأربعة مع بعضهم البعض وجلسات السّمر (بكري، رضوان النائب الفضائي، المتسشار نصيف، واللواء فادي، مع أبوشنب) فمع أنها جاءت كسند للحكاية الأصلية إلا أنها تعكس الكثير من فداحة الواقع السياسي. فالأشخاص مع اختلاف وظائفهم التي كانوا عليها هم انعكاس لهذا الواقع المتردّي، فهم في حضورهم يمثلون أجهزة الدولة المختلفة، وحواراتهم تعكس خلفيات الظل، فرضوان النائب السّابق أو النائب الفضائي الحالي بحكم حضوره في الفضائيات للدفاع عن قرارات الحكومة، يسعى بهذا إلى كسب ودّ أعضائها رغم أنه خرج عن المجلس، بل صار بهذه التركيبة المزدوجة كاشفا عن واقع مزر، فله في الحياة وجهان يتعامل بهما في الحياة، وجه يهاجم به الفساد في الجلسات السّرية، وآخر يبرره ويزينه على شاشات التلفاز، فارق بسيط يحدث له هو “الكرافتة”، حين يرتديها يتغيّر رأيه، أما المستشار نصيف الذي قبل أن يعمل مستشارا لرجل أعمال في الظل بعدما فشل في أن يستمر على وضعه الاجتماعي قبل خروجه إلى المعاش، فهو يحيل بشكل غير مباشر إلى دولة الفساد من رجال الأعمال، حيث كان يعمل مستشارا في الظلّ لرجل أعمال هارب بمديونية عليه للبنوك.
أما اللواء فادي فهو الأكثر اتساقا مع مبادئه منذ فقد أذنه اليمني في الحرب، فإنه يكره الحديث في السياسة، وما إن حدثت هزيمة الجيش العراقي حتى أنهى حياته اتساقا مع هذا النبل الذي عاش به فيها برصاصة من مسدسه. أما الشخصية الأكثر إلغازا فهي شخصية أبوشنب الذي كان يجلس بين أقدامهم يسهر على مزاجهم، ثم اكتشفوا أن لديه ثروة تقدر بنصف مليون جنيه، كما أنه الوحيد الذي فاز بثمرة نيللي عن طريق ورقة قطعت أثناء خروجهم من منزل بيكو. أما شخصية بكري أو بيكو الرّسام، فهي وحدها تكشف طبيعة الفنان البوهيمي الذي أمضى شبابه فنانا منطلقا بلا وظيفة ثابتة ولا مسؤوليات اجتماعية.
زمن الرواية العام يتصل بزمن الغزو وسقوط نظام صدام، لكن زمن الأحداث نفسه لم يتجاوز العام في علاقة هذه الشخصيات بعضها ببعض، وإن كانت بعض الأحداث تدور في زمن سابق، إلا أن الأحداث عكست واقع السنوات العشرين الأخيرة، بما فيها تردّي الأوضاع السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وهو ما تبلور في صورة مشهد وكالة البلح الذي استطاع الكاتب من خلال تسليط لقطة صغيرة أثناء بيع البدلة الخضراء والتايير الأزرق، كشف ما وصلت إليه الأحوال، وصورة الكساد الذي حام وحلق في الأرجاء.
العرب