كسارة البندق.. لحنية الحزن والفرح النبيلين




*أثيل حمدان

يعد بيوتر ايليتش تشايكوفسكي واحداً من أهم المؤلفين الروس في النصف الثاتي من القرن التاسع عشر. إذ جمع في أعماله لحنية هائلة مليئة بالحزن الشديد والفرح النبيل، مثل فعله مع ( كسارة البندق)، ذلك من دون دون المساس بقوة وجزالة الكتابة الموسيقية. ففي سيمفونياته الست تظهر الحرفية الأوركسترالية الكبيرة..

وأعماله للبيانو تظهر الفكرة اللحنية الدفاقة وحبكة القالب المتقنة، خصوصا في عمله الخالد ( أشهر السنة ). أما أعماله ( الجميلة النائمة – بحيرة البجع – كسارة البندق ). فهي الأكثر شهرة ورواجاً في عالم رقص الباليه، خاصة الأخيرة.
يمثل باليه «كسارة البندق» أحد أكثر الأعمال الموسيقية الكلاسيكية ارتباطاً بأجواء الشتاء واحتفالات الميلاد والعام الجديد، حيث يشمل ويصلح لجمهور عرض هو من الكبار والصغار، ذاك لما تحققه أحداث العمل البراقة والخيالية ورقصاتها شديدة التنوع، من متعة بصرية وسمعية، من خلال ألحان بيوتر اليتش تشايكوفسكي، المتدفقة والآسرة، التي تنفذ إلى الوجدان بغنائيتها الشفافة الحساسة.
افتتاحية موسيقية
حكاية الباليه( كسارة البندق)، مأخوذة عن قصة للكاتب الألماني أرنست هوفمان ( 1776-1822) بعنوان «كسارة البندق وملك الفئران». وأعدها للباليه الروائي الفرنسي الكساندر دوما الابن (1824-1895). كما صمم الرقصات: ليف ايفانوف، متبعا الخطة التي وضعها الراقص الشهير ماريوس بتيبا، الذي منعه المرض الشديد من إتمام العمل.
يبدأ تشايكوفسكي الباليه، المقسم إلى فصلين، بافتتاحية موسيقية صغيرة جميلة تتميز بألحان مرهفة، خفيفة وبراقة، ذلك تمهيداً لأجواء الاحتفال بعيد الميلاد الذي يقام في منزل والد الطفلة «كلارا»، بطلة العرض، حيث يعرض صديق العائلة «دور سلماير» ألعاباً سحرية تجذب انتباه الجميع.
ويقدم لكلارا دمية جندي على شكل كسارة البندق. لكن فرانز، أخاها، يشعر بالغيرة ويحاول أخذ الدمية منها بقوة فتنكسر، ثم يبادر «دور سلماير» الى إصلاح كسارة البندق ويعيدها إلى كلارا مرة أخرى.
في نهاية الحفلة يذهب الجميع للنوم. وتتوجه كلارا لتلقي نظرة على دميتها الجديدة فتشعر فجأة بأن الحجرة وكل ما تحويه، ازدادت طولا.
وفي المشهد الذي تراه يتضاعف حجم شجرة عيد الميلاد.. وتكبر، أيضاً، الهدايا الموضوعة أمام الشجرة وتدب الحياة في كل الألعاب. تلتفت كلارا برعب لترى وراءها جيشا من الفئران يهاجمها. فتدور معركة كبيرة بين الدمى، بقيادة كسارة البندق، وبين جيش الفئران بقيادة ملك الفئران، وتنتهي بانتصار الدمى.
«رحلة الأحلام»
يهدي (الجندي ) هذا الانتصار إلى كلارا. وفجأة تتحول الحجرة إلى غابة جليدية ساحرة، وسرعان ما تتحول دمية كسارة البندق إلى أمير وسيم يحمل كلارا، التي تحولت بدورها إلى فتاة جميلة في «رحلة الأحلام» فيرقصان بسعادة مع الجميع. ويواصلان رحلتهما حتى يصلا إلى مملكة الحلوى.
أحداث الفصل الثاني في العمل، تبدأ بوصول كلارا والأمير إلى مملكة الحلوى في زورق صغير، حيث تستقبل حورية « الملبس « وكلارا وكسارة البندق، ويقمن حفلا تكريميا تعرض فيه سلسلة من الرقصات النوعية المتميزة، حيث ترى كلارا جميع أنواع الحلوى والتي يعبر عنها تشايكوفسكي بذكاء من خلال رقصات شهيرة جدا.
وبينما نجد الأمير وكلارا في قمة سعادتهما، يدق جرس الساعة فيختفى الأمير، وتستيقظ كلارا من نومها وتكتشف أن كل هذه اللحظات الساحرة التي عاشتها، لم تكن إلا حلما جميلا.
أجواء خرافية ملحنة
بدأ تشايكوفسكي كتابة هذا الباليه عام 1891. وكان حرصه على نجاح العمل شديدا. فلم يعرضه إلا بعد الانتهاء منه بعدة شهور، ذاك في أوائل عام 1892.
إذ قدم كموسيقى أوركسترالية تعزف في حفل، من دون الرقص. وكان الحفل ناجحا جدا، مما أعطى تشايكوفسكي الثقة لعرضه كباليه في نهاية العام نفسه، ولكنه لاقى نجاحا ضعيفا، لان الموضوع كان غريبا على الجمهور والألوان الأوركسترالية غير اعتيادية، أما الراقصون فوجدوا في إيقاعاتها المعقدة صعوبة تمنعهم من الرقص على وقع ألحانها.
موسيقى تشايكوفسكي في هذا الباليه رائعة بكل المعايير. فهي عمل ضخم اوركستراليا، استعمل فيه أوركسترا ضخمة ففيه تؤدي آلات الأوركسترا جميعا، في توزيع رائع تظهر فيه مهارة وعبقرية المؤلف الفذة في التلوين الأوركسترالي، حتى انه استخدم آلة جديدة تشبه البيانو اسمها(الشيلستا )، اخترعت في باريس عام 1886، صوتها سماوي كريستالي رقيق..
وهو مزيج بين صوت البيانو وآلة الجلوكنشبيل.. استخدمها تشايكوفسكي في رقصة تظهر خصوصية الآلة للمرة الأولى في هذا العمل، بعد أن طلب من صديق له في باريس أن يرسلها إليه. وفي هذا العمل نسمع ألحانا غنائية معبرة تنفذ إلى وجدان الجماهير في سهولة ويسر. نسمع تنوعا موسيقيا كبيرا. فتشايكوفسكي ينقلنا عبر جو القصة الخرافي بشكل أنيق مدروس.
نظم تشايكوفسكي باليه (كسارة البندق) في ثمانية أجزاء، كون منها متتالية موسيقية تعزف كثيرا في الحفلات الموسيقية وتلقى استحسانا ونجاحا عند الجمهور، لجمالها وقوتها الأوركسترالية. ويتكون (كسارة البندق) من افتتاحية موسيقية للجزء الأول اسمها: الافتتاحية الصغيرة . وتبدأ بها المتتالية لتعطي اجواء عيد الميلاد..
وتعزفها مجموعة الكمانات والفلوت. ثم نسمع الجزء الثانى. ومن بعده يبدأ المارش الذي يعزفه الترومبيت والهورن والكلارينيت، فيعطى جوا من الفرح. ثم يعقبه لحن اخر فيعاد اللحن الاول ليختم الجزء الاول من المتتالية. وفي الجزء الثاني نسمع رقصة (فتافيت السكر )، وهي الحركة الثالثة. وفيها أدخل تشايكوفسكى آله (الشلستا) ليعطي لونا من الالحان، يوافق جو القصص الخرافية الأسطورية.
وتمثل الحركة الرابعة الرقصة الروسية (تريباك)، إذ يعزفها جميع آلات الأوركسترا لتكون رقصة رشيقة صداحة. وأما الحركة الخامسة، وتسمى بالرقصة العربية (قهوة)، فيعزف التشيللو أو الفيولا، إيقاعاً مستمراً يمثل الآلات الإيقاعية الشرقية، وعلى هذه الخلفية نسمع تآلفات من الكلارينيت والهورن، يتبعها اللحن الأساسي تعزفه الكمانات.
ثم نسمع صيحة من (الابوا) تستمر طويلا وكانها تصاحب أغنية شرقية.. وتنحدر الموسيقى تدريجيا حتى تختفى تماما. وبالنسبة للحركة السادسة فهي الرقصة الصينية( شاي)، فيستعمل تشايكوفسكى في عزف لحنها الأساسي، خليطا من آلات النفخ الخشبية، مثل: الفلوت والباصون.
وعلى صعيد الحركة السابعة واسمها( دانس اوف ذي ريد فلوت)، تعزف فيها ثلاثة من آلات الفلوت فتقدم جوا استثنائيا يدل على براعة تشايكوفسكي ومعرفته الدقيقة لكل آلات الأوركسترا. والحركة الثامنة تسمى (فالس الزهور )، تصنف من بين أجمل ما كتب في قالب الفالس. فالعمل ينضح بالحيوية ولحنه مندفق تعزفه جميع آلات الاوركسترا.
_____
*البيان

شاهد أيضاً

“أثر على أثر” معرض لمفاضلة في المتحف الوطني

(ثقافات) “أثر على أثر” معرض لمفاضلة في المتحف الوطني برعاية العين د. مصطفى حمارنة ينظم …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *