من أجل رواية بصوت الشعب




داليا سعودي
هذا حديث عن علم من أعلام الثقافة التنويرية المعاصرة، ممن رفعوا الرواية إلى مصاف الفعل الثورى المحرض، وحولوا الكلمة إلى طاقة مجابهة، وذوبوا أحلامهم الفردية فى حلم الإنسانية الكبير بمستقبل أوفر سلاما وإنسانية.
عبد الرحمن منيف (1933ــ2004)، الذى سعى لابتداع جمالية روائية وصفها بـ«علم جمال المضطهدين»، وأسميها علم جمال المقاومة. جمالية تحاكى ما تقول، وتفى بما تعد به، ويسعى معها صاحبها إلى إرساء قواعد الديمقراطية فى بنية دولته الروائية.

•••

فى دولة عبدالرحمن منيف الأدبية، يقضى المرسوم الأول بإسقاط ديكتاتورية البطل الأوحد، ليختفى من ثم البطل المحورى من «مدن الملح«و من ثلاثية «أرض السواد» من بعدها. لتتوزع البطولة على حشود من الشخصيات المنوط بها جميعا الإمساك بزمام سلطة النص. وهو قرار اتخذه منيف عامدا، وعبر عنه فى كتابه القيم «الكاتب والمنفى» بقوله:
«إن بطل الرواية الفرد، الذى يملأ الساحة كلها، وما الآخرون الذين يحيطون به إلا ديكورا لإبرازه وإظهار بطولاته، إن هذا البطل الوهمى الذى سيطر على الرواية العالمية فترة طويلة، آن له أن يتنحى، وأن لا يشغل إلا ما يستحقه من مكان وزمان».
هكذا أسندت البطولة فى «مدن الملح» إلى ملح الأرض، بمثل ما ستسند من بعدها فى «أرض السواد» إلى سواد الناس. إلى عامة الشعب من البسطاء الذين أراد منيف أن يستنهضهم فأعطاهم حق الكلمة، وحق المساءلة، وحق الاحتجاج، إيمانا منه بالقيم المناهضة للاستبداد والخضوع. وهو التزام تمليه الواقعية السياسية للمرحلة قبل أن يكون خيارا أدبيا حداثيا. ففى رسالة إلى الدكتور فيصل دراج يكتب عبدالرحمن منيف: «إن الأبطال والبطولة لا تظهر ولا تتجسد إلا فى أوقات الهزيمة، أما فى زمن الانتصار، فهناك دائما بطل واحد، ولا يهم أن يكون الشخص أو الفكرة، أو ربما الاثنان يصيران واحدا فى وقت لاحق. أما إذا جاءت الهزائم، فهناك آلاف الضحايا». وعلى الضحايا أن يرووا قصتهم.

•••

فلما كان الزمان فى «مدن الملح» زمانا موغلا فى الهزيمة، قرر منيف أن يُنَحى بطله المحورى العملاق «متعب الهذال»، مع أول شجرة تقتلعها التراكتورات من وادي العيون، تمهيدا لإقامة حقول النفط. فاختفاء المجتمع التقليدى يؤذن بالضرورة باختفاء البطل التقليدي. ويلقي بمسئولية المقاومة على عاتق الجماهير الغفيرة. فنراهم يصوغون الرفض حوارات، وتساؤلات، وأنين، ونبوءات، وصرخات، وضحكات، وأهازيج.
فلا صوت يعلو على صوتهم.
لكن المدهش أن صوت الجموع المقاومة يستحيل فى كثير من المواضع فى «مدن الملح» إلى أناشيد. فمن أقوى جماليات بلاغة المقاومة عند عبدالرحمن منيف، هو ذلك الصوت الجماعي المنغم الهادر الذى ينبثق فجأة فى لحظات التصدى للقمع، هو صوت الأمواج البشرية المنتشية فى «غناء يعرفونه منذ أيام بعيدة، ويأتى هكذا تلبية لحاجة يحسونها تطفو وترتفع على كل ما عداها من الأصوات والعواطف والأحاسيس». هو صوت الأشواق الثاوية فى قلوب الرجال فى قلب الصحراء، التي ترثي أياما خلت، وتستشرف وجه مستقبل غائم، حافلة بين الأوج والقرار بـ«عذوبة جارحة» تقول، إن الألم قد وصل حد الحرقة، وإن بلاغة الصمت لم تعد مجدية.
فأي دور يرتجى من البطل المحورى وسط هذا الصخب الجارف؟

•••

متعب الهذال، كبير قبيلة العتوم فى رواية «مدن الملح»، المرتبط بوادي العيون «بعلاقة عشق من نوع لا يتكرر كثيرا»، الشيخ العادل الشجاع الذى يملأ الفلاة بوجوده، الذى «إذا غاب شعر الناس أنه لا غنى عنه وأنه وحده القادر على أن يقول كل شىء..و أن يعبر عن أفكارهم وما يدور فى عقولهم ونفوسهم».. سليل الرجال الأشداء الذين قاوموا الأتراك بضراوة.. وصاحب الوعي المبكر بحقيقة الغزاة.. والمجالدة العنيدة فى مواجهة الطغاة.. ها هو يختفى فى الصحراء بعد نحو مائة صفحة من الجزء الأول فى رواية «مدن الملح».
وهو اختفاء يذكر باختفاء عاشور الناجى، الشيخ العادل الشجاع بعد نحو مائة صفحة أيضا من الحكاية الأولى فى رواية «الحرافيش» لنجيب محفوظ.
الناجى والهذال، كلاهما فتوة الضعفاء، كلاهما يعشق الأناشيد ويقضي ليله فى الخلاء، عاشور يرقب باب التكية المغلق، ومتعب يرصد معسكر العفاريت الأمريكيين، كلاهما سيثير اختفاؤه جزع الناس، وسيراه أقرباؤه ويناجيه محبوه فى اليقظة وفى المنام، وستلتمس ذكراه العامة كلما اشتد الحال أو استشرى البلاء، كلاهما يظل حيا فى الوعي الجمعي مهما انقضت السنوات، وكلاهما يعاود الظهور حين يقرر البسطاء الثورة على الظالمين، يعود عاشور متجسدا فى حفيده فتوة الحرافيش، ويعود متعب معتليا ظهر ناقته العمانية البيضاء مقاتلا وسط العمال وأهل حران الغاضبين.
ذلك ليس تناصا بالضرورة، أو لعبة تأثر وتأثير فى عقل أديب رحال كان نجيب محفوظ بالنسبة له «مرفأ الرواية الأساسى». لكنه مآل البطل الفكرة فى الروايات التى تحمل هم البحث عن العدالة، منتهية إلى أنها كامنة فى حكم الشعب بواسطة الشعب. فالبطل، الفكرة لا يستعاد إلا حين يستعيد الناس الوعى. وينشدون معا أناشيد الثورة الخالدة.

•••

هكذا يحقق الكاتب حلما قديما كان قد عبر عنه بطله منصور فى «الأشجار واغتيال مرزوق»، الذى تجرع الهزيمة أمام العدو الصهيونى فى حرب 1948، فأراد أن يدرس التاريخ، «تاريخ الناس الذين مروا دون أن يذكـر اسمهم كتاب أو قطعة من الرخام». فكانت «مدن الملح»، وكانت الرواية السياسية القائمة على الحس الديمقراطى، كتبها منيف بلغة سماها «وسطى»، تحتفى بصوت الشعب، وتحفل بمفرداته، لتقدم مزاجا من الشاعرية والبساطة. فهى لغة تحفز على تعميم فعل الكتابة بين الناس، وعلى تيسير سبل التدوين عليهم، وذلك قبل عشرات السنوات من ظهور المدونات الإلكترونية، وفضاءات شبكات التواصل الاجتماعى.

•••

«اكتب» هى القناة الموصلة لـ«اقرأ»، الأمر الإلهى الأول. وهى أداة عادل الخالدى، بطل رواية «الآن..هنا»، فى كسر حائط الصمت، وتقويض حصون الجلادين. عادل الخالدي، الثائر الذى يحمل فى طيات اسمه معنى العدل والخلود، الموقن بقوة الكلمة، هو صوت عبد الرحمن منيف، ذلك الثائر الأبدي من أجل العدالة، إذ يحض صاحبه المعتقل «طالع العريفى» على كتابة قصته قائلا:«نخطئ كثيرا يا طالع إذا تخلينا عن آخر الأسلحة التى نملكها، الكلمة، ولابد أن نحسن استعمالها، إذ ربما تكون وسيلتنا الأخيرة، وقد تستطيع أن تفعل ما عجزت عنه الأسلحة الأخرى، ولذلك فإن المهم أن تكتب، أن تقدم شهادة، أن تقول أى شىء كان السجن، لكى يعرف الناس ماذا ينتظرهم غدا أو بعده إذا لم يبادروا ويفعلوا شيئا»!

•••

هكذا بدأ عبدالرحمن منيف بنفسه. فانطلق فى عالمه الأدبى من تصور ديمقراطى نفذه شكلا وموضوعا. فطبق فى مملكته الروائية حقوق الإنسان التى طالما نادى بها من منابره الحزبية. مؤسسا ما يمكن أن نسميه بعلم جمال المقاومة، الذى يطال اللغة فييسرها، ويطال توزيع الأدوار، فيعيد تعريف مفهوم البطولة. ذلك هو عالم عبدالرحمن منيف، الذى كان كما كتب عنه محمود درويش، «العادل الذى قاوم زمنا لا عدل فيه» و«رد على شقاء الوجود بالكتابة. «الذي» لم ير الكتابة وطنا، لأنه أدرك، مثل غيره، أن الكتابة لا تعدل الوطن، فهى معاناة تشير إليه، وأفكار تدافع عن حق المنفيين فى أوطان لا تلتبس بالأقفاص».
الشروق

شاهد أيضاً

فرويد وصوفيا في جلسة خاصة

(ثقافات) فرويد وصوفيا في جلسة خاصة د. صحر أنور جلس سيجموند فرويد أمامها ينظر إلى …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *