عبدالله مكسور
ربما سيطرت الرواية على باقي الأجناس الأدبية لكونها هي الأقل صرامة والأكثر انفتاحا، إذ تمنح الكاتب والقارئ معا فرصة للخوض في تفاصيل أكثر وبأشكال عدّة، لكن للقصة القصيرة أيضا عوالمها الخاصة من حيث لذة السرد والأسلوب والفكرة التي تكون أكثر تركيزا. “العرب” التقت القاص السوري مصطفى تاج الدين الموسى وكان لنا معه هذا الحوار.
كتب القصة القصيرة منذ عام 1998، فكانت البداية مع “قبو رطب لثلاثة رسامين”، حتى “مزهرية من مجزرة”، وصولا إلى قصصه المنشورة منفردة عبر المواقع الإلكترونية، قد يصعب على القارئ تصنيف تلك القصص حسب مدرسة معينة، ثمّة ناقد صنّفها ضمن ما أسماه “العبثية السحرية” على غرار “الواقعية السحرية”، ولكنّ ضيفنا عادة ما يكتب بمزيج غرائبي جميل بين عدة مدارس أدبية، مزيج بين السوريالية السوداء، العبث واللاجدوى، السخرية المريرة، الرمزية بألوانها المتعددة، بين الفانتازيا والخيال من جهة وبين الواقعية من جهة أخرى كما في “كم هم لطفاء”، “الخطة العظيمة”، “سبعة أشهر مع الساحرة ذات المكنسة”.
الرغبة البدائية
يخضع فنّ القصة القصيرة عند تاج الدين موسى لشروط وقواعد معينة تبدأ بالموهبة مرورا بالقراءات العديدة والمتنوّعة وصولا إلى التجارب الحياتية، ذلك المزيج بين النكسات والخيبات، فالمبدع كما يراه ضيفنا هو نتيجة احتكاك مجموعة من الشخصيات المتناقضة التي تعيش داخله، ونتيجة هذا الاحتكاك هي نصه، ولذلك لزاما عليه ألّا يستسلم لشخصية معينة من شخصياته تحت ضغط المجتمع أو الظروف أثناء حياته الخارجية والداخلية، ليصير بهذا خشبة مسرح؛ ففي كلّ مرحلة -حسب الظروف- ثمّة شخصية من شخصياته تتقدم داخله لتحتل أغلبه، ومن خلاله تكتب نصها، وحين تنتهي تتنحى جانبا لتعطي فرصة لشخصية أخرى -لا تشبهها بالضرورة- حتى تتقدم هي الأخرى وتكتب قصتها.
بالنسبة إلى مصطفى تاج الدين الموسى فإنّ كل قصصه المتنوعة كتبتها تلك الشخصيات التي تعيش داخله، وعندما تنتهي كلها من كتابة قصصها، سينتهي ويرتحل معها.
في هذا الإطار يقع عالمه القصصيّ الذي يشتغل عليه دون الوقوع في أسر شكل محدد أو لغة واحدة أو مدرسة أدبية معينة مستذكرا قول خوسيه ساراماغو: ليس المبدع من يقضي حياته الأدبية كلها في مدرسة واحدة، إنما هو من يجيد التنقل برشاقة روحيّة بين كلّ المدارس الأدبية.
فن القصة القصيرة يخضع لشروط وقواعد، تبدأ بالموهبة مرورا بالقراءات المتنوعة وصولا إلى التجارب الحياتية
على حافّة الوطن يعيش ضيفنا الذي اتّخذ من الريحانيّة التركية على الحدود مع سوريا ملاذا له.. فماذا بقي فيه من والده تاج الدين الموسى، عن ذلك يقول “إنّ تأثير الراحل لم يكن مباشرا أو مقصودا”.
فضيفنا ولد في عائلة تهتم بالآداب والفنون فضلا عن تعدّد مشاربها السياسية، ورغم تميّز والده في الفن القصصي إلّا أنّ مصطفى لم يكن سجين شخصيّة تاج وإنّما انطلاقا من شخصيّة الراحل بنى باقي شخصيّته كما يقول، فالاختلاف واضح في مسيرة الإنتاج الإبداعي عندهما.
هنالك من يقول إن هناك عزوفا عن المشهد القصصي عموما، والاتجاه نحو الرواية في السرد، “للرواية في العصر الحديث مجموعة إغراءات للنفس البشرية”، هكذا يرى ضيفنا الذي يجد أنّه ثمّة نزوح بعدد جيد للمبدعين من كافة الفنون الأدبية إلى الرواية، هذا النزوح يعزوه الموسى إلى أنّ الرواية تمنح مبدعها حرية كبيرة أكثر من بقية الفنون، لقناعته أنّ الفنون الأدبية السابقة لها قواعد صارمة -نوعا ما- بينما الرواية رغم قواعدها إلا أنّها منفتحة على كافة الأجناس الأدبية، إنّها تلك الرغبة البدائية المدفونة داخل كلّ بشري، رغبته في أن يخبر الآخرين كيف شاهد الأشياء بعينيه.
الأدب والسياسة
في حديثه عن الأدب عموما يرى مصطفى الموسى أنه منذ أواخر القرن الماضي حتى مطلع الألفية الجديدة، الآداب والفنون في الدول العربية وصلت إلى مرحلة الموت السريري، مع دخول الأنظمة الاستبدادية لهذه البلدان مرحلة الشيخوخة حيث أصبح العمل الثقافي وظيفيا، قائما على الشللية والمحسوبيات ودرجة القرب من السلطة، مع روتين فظيع، حسب ضيفنا الذي يرى أنّ الانتفاضات في العالم العربي جددت الدماء.
خلال هذه السنوات الأربع في سوريا -مثلا- يقول مصطفى إنّه انتبه إلى أنّ المبدعين الذين انحازوا إلى الشارع ضد السلطة، لا يزال نصهم الأدبي يتألق ويتطور إلى الأجمل، بينما الذين وقفوا على الضفة الأخرى فإنّ نصوصهم تبدو وكأنها قد وصلت أمام حائط سدّ طريقها، طبعا لهذا الكلام بعض الحالات الشاذة هنا وهناك -والحديث لضيفنا- الذي يتابع بأنّ يقينه يخبره أنّ المبدعين السوريين الذين انحازوا إلى الحراك الشعبي بمفهومه المدني، الثورة أخذتهم -في نصوصهم- نحو إبداع أجمل، كأن الثورة ردت لهم موقفهم الأخلاقي، بهدية إبداعية، فالمتابع لتطور الآداب والفنون لدى شعوب العالم، يصل إلى نتيجة أن المدارس الأدبية المهمة والتجارب المتميزة، غالبا ما تأتي بعد نكسات وكوارث عظيمة وآلام كبيرة للشعوب فأهمّ الأسماء الأدبية في منطقتنا، جاءت بعد نكسة يونيو، وما يحدث الآن في سوريا أفظع بكثير من نكسة يونيو، لهذا يؤكّد ضيفنا أنه خلال العقود القادمة سوف يكون هنالك جيل سوري من المبدعين، قد يكون الأهم من بين كلّ الأجيال.
ويضيف القاص: هذا الجيل الجديد الآن، إن استمر، مع تراكم التجارب والنصوص والقراءات النقدية، سنكون أمام تجارب مهمة مستقبلا. إن لم يحدث هذا، وقتها سوف نكتشف أن خللا كبيرا ما، موجود داخلنا، في مثل هذه الحالة التفاسير تكون من مهمة علماء الاجتماع وعلماء النفس.
حديث ضيفنا عن الانتفاضة السورية دفعنا لسؤاله عن القصّة ومواكبتها لتغيّر المشهد السوري منذ مارس 2011 ليقول: إنّ هناك تجارب تأثرت بالحراك والأحداث، ليذهب بالقول إنّ التجارب الشبابية تأثرت أكثر من تجارب المبدعين من الأجيال السابقة نوعا ما.
لكن ليس من عادة الآداب والفنون أن تهضم فورا الحدث السياسي والعسكري والاجتماعي والاقتصادي لينعكس عليها خلال أيام أو سنوات، يحتاج الأمر لعقود، وخصوصا بعد الخروج من المرحلة وتأملها بهدوء، لإعادة إنتاجها إبداعيا وتفسيرها.
وفي ظل ما يحدث في سوريا وتخومها، حرب ونواح ومخيّمات، فإنّ دور المبدع يضمحلّ أمام السياسي والمسلّح ورجل الدين، فالأدب كما يعتبره مصطفى الموسى ليست مهمته إحداث تغييرات جذرية في المجتمعات وضمن نطاقه، فمهمة الأدب بالدرجة الأولى هي إحداث تغيير جذري عبر تراكمات وزمن طويل في إنسان معين، يكون قابلا في الأصل للتغيير، بينما يبرز العمل القصصي في ظل هذه الحرب، كسجين يرسم شمسا على جدار زنزانته تحت الأرض، لكن “الشمس” تظل وهما، والزنزانة هي الحقيقة، وفي ظل براميل الموت، ليس بالإمكان أفضل مما كان، يقولها ضيفنا بكثير من الألم.
العرب