*تقديم وترجمة: عمر سليمان
في تجربة الشاعرة الفرنسية «إيزابيل لاني» (مواليد 1961) كثير من تفاصيل الحياة اليومية، لكن نصوصها لا تنتمي إلى اليوميات، فهي مكتوبة بلغة حسية شفافة تميل إلى البساطة والحذف والتكثيف، كما تمتاز بمشهدية واضحة وعناية بالصورة الشعرية والنبرة الرومنتيكية، أما شغف العشق فإنه محور تدور حوله أغلب نصوصها، لتقترب من صوفية مشرقية لم تكن بعيدة عنها طوال ثمانية عشر عاماً، وهي المدة التي شاركت فيها بترجمة عدة أعمال شعرية وروائية للشاعر العراقي صلاح الحمداني.
تتأنى الشاعرة في تركيب العبارة الشعرية واختيار الكلمات، فهي تنحت قصائدها باللغة، ما يعكس إحساساً لغوياً ونقدياً عالياً، هذا التأني ينسحب على نشر أعمالها أيضاً، فقد بدأت الكتابة عام 1996، وصدر أول كتبها (يوميات وراء الصقيع) عن دار (لارماتان) باريس عام 2002، أما ديوانها (ثِلم الأيام) فقد صدر هذا العام 2014 عن دار (لو تان دي سوغيز)- باريس، وهي إلى جانب تجربتها الشعرية تمارس التصوير، كما أنها درست الطب وعملت في البحوث البيولوجية.
تأخُّر*
نسيتَ أن تعود
ثلاثون عاماً من اختفائكَ المتصحِّرْ
منَ التجاعيدِ اللانهائية والخطوط البيضاءِ
حولَ جفون ذاكرتي
قبل أن أهجرك قشطتُ قاع النهرِ
وضعتُه في عمق جيوب صباي
حيث تَرَاكُم الأقلام الملونة الجديدةِ
والأسنان اللبنية
أحصيتُ قبلاتك
ثم طويتُ القواربَ في ورقةٍ واحدةٍ
كي أنتظرَ عودتكَ المستحيلة
أغنية على النهر
بينَ الرعشةِ وغيمةِ أسئلةِ المرآة
يدايَ مجنونتانِ هذا الصباحْ
يتقوَّسُ خيطُ الجادَّةِ الفِضِّيْ
الذي يُلمح من أعالي قدري المصلوب
المتجذرِ في كثيبِ الرمالِ المُهملْ
قوافل صغيرة
تتدافع في زرقة المساء
بعيداً عنك
نزهتي تبقى بعيدة المنالْ
الأمر متروك لك وللكنتك الملونة
وأنت متقافزاً تنساب
عتمة الطمأنينة في ذراعيك
تمحو ببطٍ أرجاءَ الكونِ
ببطءٍ
بغايةِ البطءْ
سفينة عنيدة
رشفةٌ من كفَّيهِ المفرودتينْ
من صدره الطائش
من غيابه ومن إرهاقه المتسامي
في أعالي أحلامي
جعلتُ من نفسي أرقاً لأمي
لليلتها الأبدية
في ظلالها المتسارعة
حين أنساها أحيانا
تعيدني إليها
كسفينةِ عنيدةِ
مدفوعةٍ من ابنٍ منفيٍ غضبانْ
ثِلم الأيام
(مختارات)
I
أحياناً تناور كأسدٍ في قفص
تحاوِلُ، تنزلق ، أمسك بك
فتبتسمُ ليْ
نهاية نهدي الزَّغِب
ترسم الآن الطريق التي ستسلكها
وأنا أتبع بصبرٍ ثِلم النهارات الذي يحدُّ من ضياع أجسادنا
في وقتٍ يمتدُّ
لكائناتٍ قابلةٍ للتشكُّلِ
مصنوعةٍ من طين ليِّنٍ
تواق للعيش في العالمِ
وبَصمته
II
صريرْ
أنفُ نمسٍ يشبهُ شعاعَ القمَرْ
عباءةٌ من الكريستالْ
غصنٌ يترنحُ
تحت شمسٍ قاطعة
يقيننا يتلوى كأفعى
تشبهُ زخارف فارسيةً على أشجار معطرة
ثمة غشاوة عالقة بالكلمات
بينما قطار النسيان يصطخبْ
يصدم الطفولة
عثراتُ الحبِّ القديمِ ما زالتْ
لكنها تمنحني صدراً يحضننيْ
نعم، يا حبي
هذا الشكل المحفور في الثلجِ
هبَّةُ ريح فوق البطنِ
غضونٌ داكنة في الليلْ
III
شرائطُ الحبِّ
ضوءٌ يبكيْ
قشعريرةٌ وحيدةٌ ساكنةً رغبتيْ
أن أكون ملتصقة بجسدكْ
IV
تحت تنورتها الخفيفة
الكثير من الأشياء تتحول
حُلُماً
مراجيح
مواسم تمسك بتلابيبها
طفلةٌ محمومة
V
خْذُ يدَكَ إلى حافة النهر
واتركها تنزف الأمل
مع ذلك ينبغي التخلص من الكلمة [الأمل] التيْ تملأ عقليْ كحيوانٍ رخوي ضخْمٍ
يخنِقُ رغبَتِيْ
VI
في البورترية المتروكِ
فوق الخزانة
حيث أنا
ومن حولي كل هذه
الفاكهة الميتة
جاهزة لتعيش من جديد
ذات الحالة المرهقة
حيث تورق فراشة صغيرة
قرِّر ما الذي لن يكون
واترك مزهرية اليقين لتفرغْ
حتى لو عدت إليّ؟
حتى لو كانت كل هذه الشراراتِ
قدْ وُلِدت من بوتقة
زخم اندفاعي إليكْ؟
VII
كل شيءٍ سيأخذُ مكانَه:
السكينُ في الجرَّارة
اللسانُ بينِ الأسنانْ
الجنونُ وراءَ الجمجمة
العضو الاصطناعيُّ تحتَ البنطالْ
الصبيُّ في مهده
والفتاةُ تحت إكليلها
ثمة قطة تموءُ
بحنين تلحس مخلبها الأيسرْ
VIII
شجر السرو الكبير
المغروسُ كالسكاكينِ
يُلبِسُ الريفْ
ثلجٌ على الضفاف
الضفافُ ما وراءَ
نافذةِ القطارْ
IX
الأطفالُ المولودونَ من المطرْ
لم يعد من حقهم تناول وجبةِ
ما بعد الظهر
بعيدا في عزلة الظلام
تصطك أسنانهم
انتهى زمن الحلوى الصفراء
الأحلام المدورة
والتوهج أمام البياض
بينما النارُ الخضراء
لفرحتهم
تتشقلب
الكآبة
في رواق السائرين
حيث كل الأشياء خطوط
لا يجوز تجاوزها
خلف أشجار الحور
تُقطع الجذوع
X
ثلاثة رجال يقتربون
محاربون طاهرون
تحت قبو نظرة متطايرة
يا إلهي!
إلى أينَ ترحلُ بلادُنا؟
XI
أناديك من هذا السهل، حبيبي
المصفحات تتقدم
نحو بغداد
الغرباء يذبحون الغرباء
وأخوتكَ يهلعونَ
من المقاومين المزيَّفين
حقيبتك في يدك
بلادكَ تتراءى لكَ مدمَّرَة
قبل الفجرْ
سطوحٌ تتداخلُ
حيث يخرس
ضجيج الحرب
ابنة فرنسا
التي لم تشهدِ الحربَ
ستمضي معكْ
الطريق طويلة يا حبيبي
الأفقُ منقَّطٌ بأضواءٍ أجهلها
ثمة أرصفة، رمال
وأجساد خرساء
خذ بيدي
من هذه الغرفةِ
آمنتُ بأننيْ سأكون
أفضلَ قربك
أذرعتنا مليئة بالذكريات
من وجوه أمهاتنا
سنقومُ الآنَ معاً
من هذا المصير
المعفَّرِ بالترابِ
ورائحةِ النهارات المحمومة
أنا وسطَ الصحراء
في حقيبةِ يدي
دمية
ومشطٌ
للحظات اللقاءْ
ـــــــــــــ
مراجعة الترجمة: صلاح الحمداني/ عن مجلة نزوى