*تقديم وترجمة: كاميران حاج محمود
فيليبه بينيتِث رِيّس (1960) صوت مؤثِّر في المشهد الشعريّ الإسباني. أُدرِجت قصائده في العديد من الأنطولوجيات والدراسات الشعريّة؛ وحصل على جوائز عديدة، منها جائزتا النقد والشعر الوطنيتان في إسبانيا عام 1996 عن ديوانه «حيوات مُستبعدة» (1996).
وقصائد بينيتِث رِيّس متنوّعة، منفتحة على عمق عالمٍ حيٍّ مفعم بالغرابة، هو الشاعر المحبّ لأشعار بورخيس، وإليوت، وهو الوارثُ لتركة الرمزيّة والشعر التأمّلي. يقولُ بينيتِث ريّس عن الشعر: «إنّه يشبه إعادة قراءة الحياة نفسِها، مُتحوّلاً إلى تخيُّل خفيف وبعيد عن الزمن، فيستقرّ في محاكاة صُوَريّة كئيبة للأبديّة، بينما الحياة تعبر».
في ديوانه «واجهةُ حانوتِ السُّموم»، (2000)، الذي اختيرتْ منه القصائد المترجمة هُنا، قد تبدو القصائد مثل مجموعة مُقتناة من السُّموم، مُرّة المذاق وجليديّة النقاء.الزمن يمضي، لكنّ العواطف والهواجس تبقى هي نفسها، و«صندوقُ الدم والرماد ذاك» هو تاريخ الإنسانيّة. في كلّ قصيدة مشاهد وقِطع من حيوات مختلفة على غرار واجهة للمعروضات؛ حيواتٌ محكومة بالجريان الأبديّ للزمن، وبسُرعة الفناء. في رؤى القصائد خيبات حكيمة، لاذِعة ومُمزَّقة، عَبَّر عنها الشاعر بوصفيّة خالية من العيوب، رموزها مُضيئة، وتحمل صورها وجهاً من وجوه زمننا الذي لا يمكن لأحدٍ أن يُخطئه.
لا يفوتنا أن بينيتِث رِيّس روائيّ وقاصّ ومترجم أيضاً. نَشَر العديد من الروايات والمجموعات القصصيّة، إضافة إلى عدّة دراساتٍ أدبيّة، ومسرحية واحدة، وترجماتٍ من أشعار إليوت، ونابوكوف. ومن دواوينه الأخرى: «العوالم الفارغة – 1985»، «ظلال فريدة – 1992»، «الحقائب المفتوحة – 1996»، «نفس القمر – 2007»، و«الهُويّات – 2012».
————-
المرايا
إنّها تعرفُ استيقاظاتِنا خشنةَ الأصواتِ
مثلَ حيواناتٍ ترجِعُ،
بعيونٍ مُحمّلةٍ بالغرابةِ، مِنَ الهاوياتِ
السائلةِ للمنامات.
عرفَتِ الطفلَ الذي يتملَّى الآن
وجهَ ذاكَ العجوزِ المتسائلِ
بأيِّ اندفاعٍ مُحيِّرٍ انقضى العيشُ
الذي ليس إلّا هَذْراً.
تعرفُ مخاوفَ التجميلِ
لدى السيداتِ الواهناتِ
اللاتي ترتعشُ في عيونهنَّ
الدمعةُ اللانهائيّة لمَرثاة.
تعرفُ العارَ والذُّعرَ،
نظرةَ الدهشةِ ونظرةَ الخوفِ،
حُمَّى السّاهدِ والابتساماتِ
المُبهمةِ للفتى الذي يَطلي شفتَيهِ
في منتصفِ الليلِ السرّيّ.
إنّها تحوي جريانَ الزمنِ الخائن
لهذا، لا تنظرْ إليها مُحدِّقاً،
لأنّكَ سترى النّفقَ
الذي يُفضي إلى نهايةِ الذاكرة،
هُناكَ، حيثُ يُقطِّرُ سُمومَهُ
ذلك المشعوذُ مُنهكُ القِوى
المعتوهُ، الجاحِدُ، الذي الآنَ هو أنت.
————-
سوناتا ليليّة
ذلكَ الجفنُ المُسبَلُ
الطافي في سيركِ العدمِ كان القمرَ
وكان الطفلُ الذي يرنو إليه يستبقي في النظرةِ
تسكّعَهُ المُنوِّمَ كجُرمٍ سماويٍّ مُعَمّىً.
الليلُ أمسى حديقةً مُخدَّرةً
بخُلاصاتٍ من كيمياءَ قديمةٍ وظلٍّ جليديّ
وطفولتُكَ نجمةً مُحنَّطةً
في مَشغَلِ ضبابِ الماضي.
الآنَ يعيشُ القمرُ في السّاعاتِ
التي ترشقُ بعقاربها السامّةِ
السطحَ الأبيضَ لهذا الحُلم.
هذا الحلمُ اللانهائيُّ الذي تلُمُّ منه
الرمادَ الذهبيَّ لتلكَ الأشياءِ
التي كُنتَ ذاتَ يومٍ صاحبَها.
————-
اِحذرْ هذه الكلمات
لا تخلطْ بين الرغبةِ والعاطفة:
الرغبةُ أثمنُ، فهي لا تموتُ أبداً،
وبنظرةِ ذئبٍ لا يستطيعُ النومَ
تُفتِّشُ تحت أقمارٍ عاصفةٍ
عن لمعانِ البُروقِ الهشِّ سريعِ الزَّوال.
————-
لشبونة
ليس فرناندو بيسوا، إنّما
موظفُ التأميناتِ ذاك الذي، بمعطفهِ
وحقيبتهِ الجلديّة، يطوفُ على الحاناتِ الشعبيّةِ
حيثُ نشارةُ الخشبِ تُغطّي الأرضيات
ويمضي مُفكّراً
في هشاشةِ كلِّ حيواتنا.
————-
فينيسيا
كيفَ تُدوِّي:
سِياطُ مُذنَّباتٍ في السماء؟
ومع ذلك،
يالَلظلمةِ التي تلفُّ كلَّ شيءٍ هُنا!
ويالَشساعةِ العتمةِ
التي يفرِدُها، كرِداءٍ منسوجٍ من فَروِ ابن عِرْس، المُهرّجُ
الذي يقودُ مسرحَ الليلِ المُثلِج!
يالَلدُّجى المُصمَتِ
لا يدعُ أيّ شيءٍ يُرى
كي نُنصتَ
إلى المياهِ وهي تلعقُ الحجارةَ الخضراءَ
التي تصيرُ وَحْلاً، مثلَ الزمن!
————-
أمستردام
كيفَ ينحدرُ البردُ، بطيئاً،
مثلَ سكّينٍ مُثقلةٍ بالزخارفِ
تقطعُ كعكةَ
زفافٍ كبيرة؟
في هذا الشارعِ،
اُنظُرْ، كيفَ ينحدرُ
البردُ، ويسقطُ في الماءِ
مُتباطِئاً كفراشةٍ
تموتُ في أوجِ طيرانها.
————-
فاس
التُّمورُ التي بطعمِ الصحراء. والصبيانُ
الشريدون الدُّردُ الذين يركضون وراءَ بغلاتٍ
مُحمّلاتٍ ببرتقالٍ وأباريقَ مِنْ نحاسٍ أصفرَ…
من أيِّ عمقٍ في الزمن
تصلُ هذي الصورُ؟
… هؤلاء الأطفال الحدّادون الذين يبتسمون لسُيَّاحِ كاميراتِ «الكوداك» السريعةِ،
فيما النارُ تُحيلُ المعدِنَ إلى أحمرَ فاقعٍ،
تماماً مثلَ قلبِ غزالٍ،
من أيِّ عمقٍ في الزمن؟
كأنّما الزمنُ
موجودٌ في الماضي ليس إلا،
على هامشِ هذا الدُّوارِ الذي لا يمكن إيقافُه.
————-
شكلٌ من التّدنيس
كان لها دائماً
الاسمُ الأجملُ لمدينة.
في حكاياتِ الطفولةِ المُتقنةِ
كانت مُتاخمةً لمسقطِ رأسِ أحدِ اللصوص،
مكاناً عجيباً برجالٍ غريبي الأطوار،
مُعتمرين عمائِمَ،
على ظُهورِ جِيادٍ مُسرِعة.
اليومَ ليستْ سوى صحراءَ
تتلألأُ فيها نجومٌ عنيفة.
أرضُ التخيّلاتِ، في النهاية، مقذوفةٌ بالقنابل،
بغدادُ التعيسة،
أنا الذي كنتُ أتخيّلُكِ
برّاقةً بقِبابِكِ الذهبيّة…
————-
تناظر
ثمّة تناظرٌ دقيقٌ وسرّيّ
في الولادة وفي الموت:
هذه الغرابةُ
في رؤيةِ كيفَ يتشكّلُ أو يُستَهلكُ
عالمٌ، إذا أردنا تفسيره، قدّم لنا
رسماً مُستغْلِقاً:
خطوطٌ حلزونيّةٌ مُشوّشةٌ
ترسمُ تفكيراً هاذياً،
خاضعاً لصرامةِ هذه الصيغةِ الرياضيّةِ
التي تَقسِمُ العيشَ على الفراغ.
كلُّ شيءٍ ميثاقٌ،
اتفاقٌ صامتٌ بين كائنٍ فانٍ
وناموسٍ خالد،
حتّى تحينَ
اللحظةُ الأخيرةُ، المتَّسِقةُ،
التي تذوبُ فيها الخطوطُ الحلزونيّةُ
ويفرِضُ التناظرُ الدقيقُ نفسَهُ:
العدمُ في مرآةِ العدمِ،
وشبحُ حُلمٍ مّا يعودُ إلى الحُلم.
————-
تسعةُ افتراضات
أيّاً تكنِ المدينةُ فهي سرٌّ.
أيّاً تكنِ اللحظةُ فهي ساحرةٌ ومشؤومةٌ:
إنّها التقاءُ الوقت بنا نحن.
كلُّ كلمةٍ ترسمُ متاهةً.
أيّاً كانت المتاهةُ فالخروج منها يتمّ بالكلمات.
دائماً هناكَ قمرٌ مليءٌ بالرغبة.
دائماً هناكَ قمرٌ ميّتٌ في الذاكرة.
دائماً تتبعُ الصدفةُ قواعدَ مُبهمةً:
عندما لا تنتظرُ أن يحصلَ ذلك،
أحدُهم يفتحُ يدَهُ ويُريكَ مفتاحاً
يلمعُ كالذهبِ تماماً
ويقولُ لكَ: «إنّه مفتاحُكَ».
كلُّ مدينةٍ تُهدي سرّاً.
كلُّ سرٍّ مُبرمٌ دائماً.
للفوضى نظامٌ خفيٌّ:
ما لم يقعْ أبداً اسمُهُ الحياة.
_____
*الدوحة