فلسفة مفهوم “تأدية الأدوار” لدى جودث بتلر وعلاقته بالأدب



*سمية الحاج

( ثقافات )

قدّمت الفيلسوفة الأمريكية جودث بتلر مقالها “تأدية الأدوار وتكوين الأنواع الاجتماعية (الجندر): دراسة في الفينومونولوجيا والنظرية النسوية” عام 1988 قراءةً جديدة لما يعرف “بتأدية الأدوار”performativity وعلاقتها بتطوّر الهوية الجندرية.
بدايةً، استنبطت بتلر فكرة “الأداء” من علم اللغويات، وبالأخص نظرية أفعال الكلام Speech Acts التي أسسها ج. ل. أوستن و طورها ج. ر. سيرل, وهذه النظرية هي اتجاه لتحليل اللغة مقرونة بسياقها التاريخي و الثقافي والاجتماعي، لا على أنها شكل فحسب كما فعل البنيويون الذين اعتمدوا في تحليل النص على نظام فرديناند دي سوسير.
ميّز أوستن في نظرية علم الكلام بين الأفعال التقريرية أو الإخبارية التي تصف العالم الخارجي و تتسم بالصدق أو الكذب constative والأفعال الإنجازية التي توجِب على صاحبها القيام بفعل معين performative كأن يخبر الشرطي المجرم مثلاً أنه قيد الاعتقال، أو أن يعلن قائد عسكري الحرب, هنا توجب عبارات: ” أنت قيد الاعتقال” و أعلن الحرب ” على التوالي أفعالاً أو إجراءات معينة, وتستفيد بتلر من فكرة الأفعال الإنجـازية performative لتؤسس مصطلحاً أصبح أساساً لنظريات بتلر وهو performativity أي تأدية الأدوار, وتسحب بتلر نظرية أوستن في اللغة على الجندر فتوضح أن الهوية الجندرية مثل الأفعال الإنجازية تماماً، فهي لا تحمل معنى واحداً أو حقيقة معينة، ولا يمكن وصفها بالصحيحة أو الخاطئة.
تبدأ بتلر مقالها باقتباس ما زعمت به سيمون دي بوفوار في كتابها الجنس الثاني عام 1974 أن ” المرأة لا تولد امرأة، بل تصبح امرأة” فالفعل “أصبح” يحمل في ثناياه معنى الأداء و الصيرورة و التغيير, و تؤكد بتلر هنا على أن الجندر – أي ما يجعل المرء رجلاً أو امرأة ما هو إلا “تكرار لأدوار نمطية خلال حياة الإنسان” مما يدل على أن الدور الجندري قابل للتغيير بصفته رغبةً لا أصلاً, و بناء على ذلك تحتمل هذه المرونة “إمكانية تحوّل الجندر”
الهوية الجندرية إذاً ليست مُعرّفة مسبقا،ً ولا مستقرة على شكل ثابت, و بحسب تحليل بتلر، أن ما نراه من أنماط ثابتة للرجل و المرأة مفروضة علينا لخوفنا العقوبات الاجتماعية و الوقوع في التابوهات, و هذا يعني أن الواقع الاجتماعي هو مجرد وهم اختلقته المجتمعات عن طريق اللغة و الإشارات و جميع أشكال الدلالات الرمزية و الاجتماعية, و تشبّه بتلر ما يحدث في المجتمع بنص مسرحي يخرجه الممثلون إلى حيز الوجود في كل مرة من خلال تكرار العرض, لكن يبقى احتمال التنوع في العرض أو القيام بالتغييرات – و إن كانت طفيفة – قائماً, و بنفس الطريقة قد يستطيع المرء تغيير النمط الجندري الذي يفرضه مجتمعه.
وتذهب بتلر في مقالها أن الفرق بين الجنس و الجندر هو أن الأول يمثل الفرق البيولوجي الذي يسم الجسد بالذكر أو الأنثى، بينما يحمل الجسد ما هو أبعد من ذلك من معانٍ ثقافية و احتمالات تاريخية، أو كما يصفه الفيلسوف الفرنسي موريس ميرلو بونتي بأنه “فكرة تاريخية” أكثر من كونه “نوعاً طبيعياً” و كل هذه الاحتمالات التي يحملها الجسد هي الجندر. إننا بتمثيلنا للأدوارالمتخيَّلة التي يفرضها علينا المجتمع، نجعل هذه الأدوار حقيقية و ذات تأثير حقيقي علينا, و ما نقوم به من خلال تكرار هذه الأدوار ما هو إلا إلصاق لأدوار معينة بالأنثى كي تكون امرأة، و أدوار أخرى بالذكر كي يكون رجلاً, و بهذه الأحكام العامة نحن نختزل الإنسان في مجرد جسد مقيد بأفكار و عادات محددة مسبقاً، و هذا ما يحد من حرية الفرد في التعامل مع جسده بطريقة مختلفة و هناك عدة احتمالات لذلك, و من جهة أخرى يُهمش المجتمع أو يعاقب أولئك الذين يفشلون في تأدية الدور الجندري الذي يفرضه مجتمعهم كالمخنثين، بالرغم أن المخنث قد يثير إعجاب الجمهور و ضحكهم و تصفيقهم في مشهد مسرحي، لكن إذا ما جلس مخنث جوارنا في الحافلة مثلاً فإن وجوده قد يثير الخوف أو القلق و حتى العنف, و سبب هذه الظاهرة هو أن طريقة التفكير في المجتمع ثنائية: رجل مقابل امرأة, و تقود هذه الثنائية إلى ما هو أخطر من ذلك فالرجل مثلاً عليه أن يكون قوياً و حكيماً، بينما تتصف المرأة بالضعف و العاطفية في أحكامها، فإذا أبدت المرأة قوة جسدية تتهم بأنها مسترجلة و العكس صحيح بالنسبة للرجل.
من خلال إيمان بتلر بنظرية ميشيل فوكو “القوة- المعرفة ” ترى بتلر أن الهوية الجندرية ما هي إلا وهم يتوارثه الأجيال من خلال الخطاب اللغوي الذي يتميز بامتلاكه القوة و السلطة, و بناء على ذلك فإن العلاقة ما بين الشخصي و السياسي خيالية أيضاً لأن القوى المهيمنة هي التي تخط النصوص للتصرفات الشخصية بما يخدم مصالحها و أيديولوجياتها السياسية, فحرمان المرأة من الانتخاب على سبيل المثال لا يعود إلى مرجعية بيولوجية تمنعها من الذهاب إلى صناديق الاقتراع أو اتخاذ القرار السليم، و لكن هذا ما أصبح عليه الأمر عرفاً في بعض الدول من خلال تكراره، و ينسحب ذلك على الكثير من الرواسب الاجتماعية العالقة في المجتمع.
تقول بتلر أن الجندر هو فعل “مقصود و أدائي”، و كلمة “أدائي” هنا لها معنى مزدوج: دراماتيكي (أي يترسخ معناه بتكرار الأداء) و غير مرجعي (أي أن الجندر نسخة بدون أصل simulacra) و هذا يمّكن الأفراد من تغيير تصرفاتهم الشخصية و التعديل عليها بتأدية أفعال أخرى لأن تصرفاتهم ليست حقائق أو مرجعية أصلية صحيحة, وبذلك لا يجوز تهميش أو معاقبة أولئك الذين ينحرفون عن المعايير الاجتماعية الوهمية.
و أخيراً تكمن أهمية نظرية جودث بتلر بمرونتها في التطبيق، فلا يمكن اختزال النظرية في الدراسات النسوية و الجندرية فحسب، بل تندرج الكثير من المعضلات الأدبية تحت ثنائية التفكير و الصور النمطية و الأدوار الثابتة, ففي دراسات الكولونيالية على سبيل المثال يلعب المستعمَر دور الضعيف و البربري و الجاهل, بينما يكون المستعمِر قوياً و متحضراً و مستنيراً, و هذا ما انسحب مثلا على رواية تشارلوت برونتي الشهيرة جين إير حيث تظهر جين الفتاة الإنجليزية البيضاء بصورة المرأة الإنسانة و القدوة لغيرها من النساء، بينما تُعامل بيرثا، الفتاة الكاريبية كامرأة مجنونة مُهملة في العليّة, إن الوقوع في مثل هذه الصور النمطية في الرواية ليس إلا ترسبات ثقافية و صور جاهزة هدفها الأول الهيمنة و الاستعمار.
_________
*باحثة وكاتبة من الأردن

شاهد أيضاً

أول رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي

(ثقافات) أوَّل رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي: أركيولوجيا الصورة في رحلة ابن بطوطة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *