ماتشادو.. أن تعيش بملء الروح


ترجمة: أحمد حميدة

* شاعر متبصّر حكيم أراد الوقوف في وجه الفوضى والخواء

* خبر ماتشادو جراح إسبانيا كما خبر الأنهار والحبّ والنّسيان

* الرّجل الطيّب ينتصب حارسا كالخان على الطّريق.

وكالماء للعطشان في فلوات الشّعر

——-

معروف هو ماتشادو في فرنسا، ولكنّه يظلّ غير معترف بمكانته السّامقة.

إنّه ذلك الرّجل المهيب والخجول الذي يحثّ الخطى في رواق الكلمات الشّاهقة، ممعنا في الصّمت ومتواضع، «وديع وصارم كشجرة إسبانيّة عتيقة» – نيرودا -، تلك الشّجرة التي كان فيئها يمنح البرودة والطّراوة لشعب بأكمله، تمّ اجتثاثها وقطعها، ويرقد اليوم جذعها في مقبرة «كوليور» بفرنسا، أمّا جذورها فلا تزال في قشتالة التي كان يعشق، وما فتئ يحتفي بها.

.

——-

آه ! أيّتها الأرض الجاحدة والقاسية

يا أرضي أنا.

.
يا قشتالة !

إنّ مدنك المخرّبة تجترّ حزنك الدّفين

الذي يعمر وحدتك المعتّمة

قشتالة الوجع

أرض الأبديّة

قشتالة الموت !

يمضي ماتشادو بخطى قرويّ مربك، محرج في لباسه اليابس والأسود الذي يبدو وكأنّه من زمن آخر، بعد أن يكون قد عمر بكلماته عزلته ووحدته المعتّمة.

.

رجل مقطّع

كان الألم والحرب قد جعلاه مقطّعاً ومعزولًا عن منابعه الأصليّة.

مقطّعاً كان ماتشادو.

.
بين شقيقه مانوال الذي كان يحبّه والذي غدا فرانكيّا متحمّسا، ومُثُلهِ الأخلاقيّة التي جعلت منه شاعراً جمهوريّاً شاهراً قبضته في وجه الفاشيّة.

.

بين أخلاقه وحبّه الغامر لزوجته ليونور، الفتاة الصّغيرة السنّ التي تزوّجها ليفقدها وتختفي عن ناظريه بأسرع مما كان عليه الأمر مع أوريديس.

.
بين نواميسه في الحياة وحبّه لامرأة متزوّجة.

«جيومار».

.
بين توقه إلى السّلام، وهو الكاتب المعشوق والمحتفى به، وانخراطه بلا تردّد في الحرب الأهليّة، وكان بإمكانه الالتجاء إلى باريس أو أيّ مكان آخر.

.
تلك كانت حالة تقطّع وتمزّق: الصّراع بين الإخوة وما يخلّفه من حروقات، الإحساس بالذّنب تجاه زوجته، ثمّ معشوقته وشقيقه.

.
ثم ذلك الاندفاع وتلك الرّغبة المتّقدة فيما يحقّق العدل ويجلي الحقيقة.

حمل ماتشادو ذلك العبء حدّ الصّراخ.

.حدّ انحباس النّفس، وأضحى كلّ شيء بداخله تضادّ وضرورات ملحّة.

ومن هذا التمزّق شاد أعمالا لا تزال نابضة بالحياة.

كلّنا يعلم قصّة هروبه مع أمّه عبر جبال البيرينيه، التي ستنتهي بوفاته في 22 فيفري 1939، بعد ليلة لاذعة البرودة أمضاها داخل عربة قطار.

ويرقد ماتشادو اليوم في مقبرة صغيرة مزهرة على الدّوام بمحبّيه، وبجواره صندوق بريد بسيط، فم موهوب للزّمن للتّواصل معه فيما وراء العدم، وكأنّ الحريّة أبدا، لا يعتريها الذّبول.

.و في أيّامنا هذه غدا ماتشادو رمزا لإسبانيا المتصالحة، التي كان حارسها المؤتمن عليها، والمستشعر لتغيّرها ولمستقبلها الذي غدا للأسف تجاريّا.

أفكّر في إسبانيا بيعت بأكملها

من النّهر إلى النّهر

من الجبل إلى الجبل

و من البحر إلى البحر

وهو الذي قال أيضاً هذه الكلمات: «إنّ كلّ بلد عبارة عن ورشة للمستقبل وسهم موتّر نحو الغد».

كلمات متنبئ جمهوريّ وحكيم متبصّر يريد الوقوف في وجه الفوضى والخواء.

وأكثر من أولئك الذين يفوقونه شهرة اليوم، يبقى ماتشادو الشّاعر – الرّمز للقيم العميقة والأصيلة لإسبانيا، إسبانيا الدمّ والشّمس، ولا إسبانيا المتسرمدة بالوشاح الأسود للفاشيّة وشعار «عاش الإعدام.

» الفرانكي.

وكان ماتشادو قد خبر جراح شعبها، القديمة والجديدة، كما خبر الأنهار والحبّ والنّسيان، وسيكون هذا الإنسان الجامح قد حدّد الطّريق والوجهة بكلمات بسيطة، بحكم مأثورة وبالأغاني.

وكمترحّل شبيه بالمترحّلين أمثاله في ميثولوجيا بلاد الشّمال، سيحذّرنا بأنّه ينبغي لنا تهجّي انتظار ارتفاع المدّ، وبأنّه لا طريق غير ذلك الذي ترسمه خطواتنا، وما تخلّفه تلك الخطوات من أثر على البحر.

المتسكّع في الأرض

ينبغي أن نعرف الحبّ العميق الذي يكنّه إسبان المنفى لماتشادو والذي يحجبه شعراء أكثر توهّجا وانتشارا، وذلك لأنّ ماتشادو هو صورة للنّفي ذاته وللتّسامح أيضاً، وهو الذي لم يعرف المنفى إلاّ لبضعة أيّام قبل أن يموت، ولكنّه عاش النّفي بداخله طيلة حياته، وقبره في كوليور بفمه الظّليل على شكل صندوق بريد لا يزال مفتوحا لكلّ التّساؤلات والأسئلة، لقد تحوّل ماتشادو إلى ما يشبه المنارة التي تجذب إليها أولئك الذين يحملون بداخلهم كآبة المنفى، أو أولئك الذين أنصتوا يوما ما لبعض من كلمات ماتشادو.

كان ماتشادو يحبّ الشّعب والنّاس الطيّبين «الذين يعيشون ويعملون، يعبرون الحياة وهم حالمون، والذين في يوم ما، وكآخرين كثر، تحت التّراب يرقدون».

على ظهر البغلة العجوز للشّعر يكون ماتشادو قد ساح في أرض البشر، رافضا اليأس والقنوط وفتور العزيمة، دون التّغاضي عن الآلام، وكان يحذّر المتحذلقين والمنافقين المرائين ويفضّل التّواضع – « كلّما صادفني قرويّون أفكّر في كلّ الأشياء التي يعرفونها والتي نجهلها، ويدهشني كم لا يهمّهم معرفة ما نعرف».

فهذا الرّجل الميّال إلى التأمّل، المأخوذ بدوار أسئلة مستعصية لا مخرج منها، كان يبدو وكأنّه يتخفّى وراء ظلّ كلماته، لم تكن له الهيبة المتوهّجة لمعاصريه.

لوركا.

ألبرتي.

نيرودا، ولكنّه كان أكبرهم سنّا، منكفأ في شخصيّة القرويّ الغامض، وكمعلّم مجهول كان لا يرغب في أن يصبح خطيباً.

لقد تركت مؤلّفاته («عزلات» في 1903 في سنّ الثامنة والعشرين، «حقول قشتالة » في 1912، كتاباته الفلسفيّة في «خوان دي مورينا» كما مسرحيّاته) أثرا لا يزال عميقا في الأرض الإسبانيّة، إنّه قائد جوقة حاضرها وماضيها.

كان يبدو وكأنّه مقيّد إلى هذه الأرض ومشحون برغبات غامضة لا تدركها غير الأحجار التي جاستها أقدامه.

ومروّعاً بالفساد وبالتّقاتل بين الأخوة سيهجر شيئا فشيئا الشّعر الغنائي ليشغل وظيفة أستاذ للّغة الفرنسيّة في الرّيف، ثمّ في مدريد سنة 1936، وسيؤثر حينها تسجيل خواطره على كتابة الشّعر.

غير أنّ الحرب الأهليّة ستفجّر فيه، تحت وطأة الغضب والتعلّق بالكرامة الإنسانيّة، قصائده عن الحرب.

وكابن روحيّ لميغال إينانيمو، رئيس جامعة سالمنك، سيكون مثله مستنهضا للضّمائر، وكـ «بيسّوا» فإنّ تعدّد الأصوات بداخله سيدعوه إلى إمضاء كتاباته بأسماء مستعارة عديدة.

كان في عمق كيانه يشعر بالإضطراب، ويعرّف ماتشادو نفسه قائلاً: «إنّ إشاعة الثقافة وحمايتها لأمران متلازمان ومحكومان بهدف واحد: تنمية الكنز البشري من الوعي المتيقّظ في العالم»، كان مرشدا عظيما، منفتحا على الإحساس والشّعور أكثر من انفتاحه على المعارف المكتسبة، ففي كتاباته الفلسفيّة كما في شعره كانت رؤيته للأشياء تنشد ما هو جوهريّ، يحكمها الحرص على، ما ينفع ويمكث ويستمرّ، وعلى الإحساس بالآخر.

متواضعا، كان يتحدّث أكثر إلى البسطاء أمثاله من تحدّثه إلى العلماء والعارفين: «الحديث إلى عامّة النّاس، أيّة غاية أخرى يمكن أن تغريني؟ مأخوذا برغبة الكتابة للشّعب، تعلّمت منه كلّ ما أمكنني تعلّمه ولكن بالطّبع هو أقلّ بكثير ممّا يعرفه.

أن تكتب للشّعب هو أن تكتب للإنسان الذي هو من جنسنا، الذي يستوطن أرضنا ويتكلّم لغتنا، ثلاثة ينابيع لا تنضب ولن نستوفي معرفتها، أن نكتب للشّعب يعني أن نتسمّى سرفنتاس في إسبانيا وشكسبير في إنكلترا وتولستوي في روسيا»
رؤية تتّسق مع ما ذهب إليه معلّمه «أونانيمو» من أنّ «الحقيقة هي ليست تلك التي تجعلنا نفكّر وإنّما تلك التي تجعلنا نعيش».

بهذا، يكون ماتشادو قد حمل تلك اليوتوبيا الرّائعة، ألا وهي تصوّر مدرسة شعبيّة للحكمة الخالدة.

.درس جميل ونبيل كم ينبغي أن يستوقف القائمين على شؤون السّياسات الثّقافيّة في زمننا الرّاهن.

لذلك بقيت تأمّلاته في الشّعر حادّة وحاسمة: «إنّ أفكار الشّاعر ليست بالّصيغ الثّابتة أو أقراص من المنطق، ولكنّها إشراقات حدسيّة مباشرة بالكائن الإنسانيّ في تغيّره وفي حقيقة وجوده، إنّها إذن مؤقّتة، وبالتّالي فهي ليست عناصر وجوديّة غير مألوفة يبلغ فيها الزّمن قيمته المطلقة، فالحيرة والذّعر والمخاوف واللاّمبالاة والعدم وعدم الصّبر.

.

التي يتغنّى بها الشّاعر هي علامات زمنيّة وفي ذات الوقت تجلّ للكائن في وعيه الإنسانيّ».

وأثناء الحرب الأهليّة الرّهيبة التي استمرّت من 1936 إلى 1939 انتصب ماتشادو بكليّته مدافعا عن الجمهوريّة الإسبانيّة بحماس يشبه الاندفاع الحيوي، للوقوف أمام غريزة القتل لدى الفرانكيين، فكان يعيش وفق مبادئ مقدّسة لا حياد عنها: «مهما كانت قيمة الإنسان، لن تكون له قيمة أرفع من كونه إنساناً».

كان يمقت النّخبويّة ولا يعتقد إلاّ في الكرامة الإنسانيّة، كرامة الإنسان، كان يذكر الأرض والرّوائح المنبعثة منها: «إنّ طفولتي هي ذكرى فناءٌ في إشبيلية وبستان مشرق تنضج فيه أشجار اللّيمون»، وإنّ إحدى حكمه لحقيقة بأن نتأمّلها بلا ملل: «إنّ إشاعة الثّقافة ليست توزيعا لثروة محدودة على العماء المعمّم من النّاس، فلا يتمتّع بها أيّا منهم بصفة كاملة، إنّها تكمن في إيقاظ الأرواح الغافية والزّيادة في عدد النّاس القادرين على العيش بملء الرّوح».

رجل خيّر وشاعر جوهريّ

أكثر من كونه شاعراً فإنّ ماتشادو رجل خيّر، بسيط وجوهريّ في إحساسه: «الرّجل الطيّب هو الذي ينتصب حارسا كالخان على الطّريق.

إنّه كالماء للعطشان والخمرة للسكّير ».

.ويبقى ماتشادو ذلك الخان البسيط على دروب الحياة وفي فلوات الشّعر.

أمّا شعره فكان على صورته: لذيذ وطيّب، سهل ومباشر، ومتخفّف من ثقل الصّور.

وغياب الحرص على البهرجة والإعراض عن سحر الكلمات المنمّقة، جعل شعره نبعاً صافياً ومغوياً، فالكثير من الإسبان تهزّهم الزّينة في النّظم لدى شعراء آخرين، ولكنّ شعر ماتشادو هو الذي يبقى محفورا في ذاكرتهم.

ولا تزال نافورة ماتشادو تسيل.

منعشة ومطهّرة، وشعره يبقى أقرب ما يكون إلى نفسه، دون أن تعكّر صفو الحدس فيه تقنية الكتابة أو مسرحة الكلمات، إنّه كثيف ورصين، بليغ ومباشر، إنّه يخاطب الأرواح البسيطة والعفويّة التي يتوق إليها ماتشادو بمجامع قلبه.

يقول خوان دي مارينا: «لتتجنّبوا الافتعال والتأنّق المصطنع في الأدب، إنّه عدوّ الأصالة، ولتفكّروا بأنّكم تكتبون بلغة بالغة، مترعة بالفلكلور والمعرفة الشّعبيّة، وقد كان هذا الفولكلور.

الصّلصال المقدّس الذي شاد منه سرفنتاس العمل الأدبي الأكثر أصالة على مرّ الأزمان».

ماتشادو، الرّجل الطيّب والشّريف، نقل إلينا شعره كخبز لذيذ.

شعر مستقيم كما هو.

شعر أخلاقيّ.

.

شعر مشرع على البحر.

على أسرار القدر الإنسانيّ وعقم الزّهو بالأشياء، وعلى المعرفة.

لا شكّ في أنّ شعر ماتشادو – وبالنّظر إلى كلّ هذه العوامل – لا يحظى بالاحتفاء الذي يستحقّ، إنّه يحتجب وراء تواضعه، ويلوذ متملّصاً.

.

ببساطته، إنّه يبقى على مسافة ما، في انتظار أن نقبل عليه ونحن مسكونون بنفس الهاجس في ملاحقة القدر.

«بالنّسبة لماتشادو فإنّ الشّعر والقدر ليختمان بشكل تراجيدي تزاوجهما بعد الإعياء والتّيه.

عند الحدود القصوى للّيل » – كلود إستيبان –

إنّ حكمه وأغانيه وتغاريده لأرض قشتالة الخشنة، وتأمّلاته الفلسفيّة المنسكبة في بعض أشعاره.

لا تزال تشكّل روح إسبانيا العميقة.

يبقى ماتشادو معلّما جادّا بعض الشّيء، ولكن كم هو عميق لأجيال متتالية، وجامعته للحكمة الشّعبيّة المضمّنة في نصوصه تروي بقيم المحبّة والتّسامح شعبا بأكمله.

شاعر الجسارة والصّدق والإيثار، إنّه يعلّمنا كيف نعيش.

كيف نعيش أحرارا، إنّه يبقى موقظا للضّمائر إلى غاية اليوم.

لقد عاش في الحقول الخشنة لوطنه الأندلسيّ وفي قشتالة التي كان يحبّ، عاش القصف على مدريد وقصف الأجساد البشريّة، كلّ ذلك عاشه في أحشائه، في صباحات مكلّلة بالسّهاد وبالدّم المراق في الطّرقات، فإسبانيا التي غشيها نعاس أسود انتابها على حين غرّة، أضحت منتهبة بالجنون والانحدار.

أمّا ماتشادو فيقصد منفاه وهو يستشعر بأنّه على موعد مع الموت:

عندما ستأزف ساعة السّفر الأخير

و تبحر السّفينة التي لن تعود

ستشاهدونني على ظهرها بأمتعتي الضّئيلة

شبه عار وأنا ألهو كأطفال البحر.

تلك أبيات تظلّ منقوشة على قبره في كوليور.

رحلة العذاب الأخيرة

عندما أضحى سقوط برشلونة وشيكا، وتقدّمت نحوها عصابات الفرانكيين، خرج ماتشادو رفقة أسرته وجمع من أصدقائه فارّين نحو فرنسا.

وفي 22 يناير 1939 انتابه الإعياء فقرّر مع أمّه وشقيقه جوزي التحوّل نحو جانب آخر من الجبل حتّى يكون ترحّلهم نحو فرنسا أكثر أمنا.

وهكذا بدأت رحلة العذاب وحياة النّفي التي كان يستشعرها، والتي حملها بداخله كثمرة ناضجة مدركا بأنّها باتت موعده مع الموت.

وما بين قوافل المنفيين يغادر ماتشادو مسقط رأسه، ومن استراحة إلى أخرى سيصل إلى «بوربو» في 27 يناير بدون أمتعة سفر، حافي القدمين في جوّ من الصّقيع القاتل، اجتاز خانق «باليت» الذي لا تجرؤ الكروم الخضراء على عبوره.
، في صمت.
وفي برودة لاذعة.

وتحت وطأة الخجل من الهروب، وفي حالة انهيار من فرط الإنهاك، وُجّه إلى مدينة «سربار» في 28 من الشهر.

ففيما كان يفكّر هذا الحكيم وهو في عربة قطار مثلّجة تدفع به نحو اليأس؟ هل تراه كان يفكّر في باريس التي عاش فيها أيّاماً سعيدة؟ أم تراه كان يفكّر في الموت والتّلاشي بهذه الأرض اليباب؟ لقد خربش أثناء رحلة التّيه بعض الكلمات على أوراق شردت منه وهو في طريق المنفى.

مجهداً وفاقداً للأمل نقل إلى نزل بسيط، نزل «كينتنا» في كوليور حيث سيودع الرّوح بعد عشرين يوما، في 22 فبراير، دون أن يبدي رغبة في الذّهاب إلى أبعد من ذلك، أمّا أمّه فسيوافيها الأجل بعد بضعة أيام على رحيل ابنها.

رحل ماتشادو تاركا قصيداً على ورق منكمش في جيبه وحقيبة سفر متآكلة، ولم يمهله الزّمن كي يُوقّّعَ خطواته أكثر على الأرض في الجانب الآخر من البيرينيه، ولكنّه سيظلّ ممجّداً في إسبانيا التي كان يعشقها.

«تلك السّماء الزّرقاء.

.وشمس الطّفولة هذه»، هذا البيت الأخير الذي عثر عليه شقيقه في أحد جيوب معطفه يبدو موتّرا نحو تلك الأيّام الزّرقاء، مشبعا بأحجار قشتالة وبوميض مياه نهر دورو.

.كان ماتشادو لا يزال البحر المعلّق التّائه في البحر، وذلك الدّرب الذي يحمل آثار خطواته، كلّ ماتشادو يحتشد هنا، في هذه الحكمة العذبة والرّقيقة.

.

الخالية من التّلميح، إنّه حلمه في اليقظة.

الشجيّ والعذب.

كلّ شيء يمرّ وكلّ شيء يمكث

و نبقى بحاجة إلى العبور وإلى رسم المسالك

مسالك على البحر.

طيلة حياته عرف ماتشادو كيف ينتظر حركة المدّ وارتفاع أمواجه كزورق على السّاحل غير آبه بساعة الرّحيل:

لم أطمح يوما أن أكون ممجّدا

و لم أسع كي تكون أغانيّ

محفورة في ذاكرة النّاس

و لكنّني جبلت على محبّة العوالم النّاعمة

الشفّافة والرّقيقة

الشّبيهة بفقّاعات الصّابون

أحبّ أن أراها تتصاعد

متلوّنة بألوان الشّمس والأرجوان

تطير تحت السّماء الزّرقاء

ترتجف أحيانا

ثمّ.

.

تتشظّى

إنّه كان يريد العيش بملء قامته كإنسان.

وقد فعل ذلك بشكل بليغ وبصوت شامخ:

يرتسم الطّريق ونحن نمشي

و عندما ننظر إلى الوراء

نرى المسلك الذي

لا ينبغي لنا أن نجوسه من جديد

فيا أيّها المسافر.

.

ليست هناك مسالك

غير آثار خطواتنا على البحر.

لا يزال أنطونيو ماتشادو يقبل علينا محاطا بهالة تلك « الأيّام الزّرقاء وبشمس الطّفولة »، ولكن أيضاً بطيبة الشّاعر المخبت والابتسامة الشّاحبة للمنفيين.

إذا كانت الحياة قصيرة

و البحر لا يصل إلى زورقك

فلتمكث منتظرا

و لا تفقد الأمل

لأنّ طريق الفنّ مديدة

و بالمقابل

فإنّه لا أهمّية لذلك.

.

.

————-

كادر

مسالك فوق البحر

شعر: أنطونيو مشادو

—————-

لم أطمح يوما أن أكون ممجَّدا

و لم أسع كي تكون أغانيّ

في ذاكرة العباد

ولكنّني جبلت على محبّة العوالم النّاعمة

العوالم الشفّافة، الرّقيقة

الشّبيهة بفقّاعات الصّابون.

أريد أن أرمقها وهي تتصاعد

ملوّنة بألوان الشّمس والأرجوان

تطير تحت السّماء الزّرقاء

ترتجف أحيانا

ثمّ.

.

تتشظّى.

لا تبدّد وقتك هدراً

في السّعي وراء ما أنت تعرفه

فمن سيسعفك بأجوبة

عن أسئلة تظلّ أسرارها معلّقة؟

لنهزج سويّا، ولنهتف بصوت واحد

ما حدُّ ما نعرِف؟

لا شيء نعرفه!

أتينا من بحر زاخر بالأسرار

و مضينا إلى بحر صموت

يأبى الإفصاح والإخبار.

و بين هذا وذاك

يكمن اللّغز المريع

مفتاح غريب

لصناديق منغلقة

.

.

على سرّ الأسرار

لا شيء نتعلّمه من ذاك العالِم

فضوءه خادع لا يضيء

ثمّ ماذا تقول الكلمات؟

و بمَ يهمس النّبع المتدفّق ليل نهار؟

فيا أيّها المسافر، الطّريق

هي التي تحمل آثار خطواتك

تلك هي الحقيقة!

ليس هناك من طريق!

يرتسم الطّريق وأنت تمشي

و عندما تنظر إلى الوراء

يتبدّى لك المسلك الذي

لا ينبغي أن تجوسه من جديد.

يا أيّها المسافر

ليست هنالك من مسالك

غير آثار خطواتنا على البحر.

كلّ شيء يمضي، وكلّ شيء يمكث

و ليس لنا من خيار غير العبور

العبور ونحن نرسم

نرسم مسالك

مسالك فوق البحر.



– الاتحاد

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *