Author Edward Said is pictured in Paris on Nov. 25, 1996. Ulf Andersen/Getty Images

“إدوارد سعيد” الذي خسرناه مرتين

(ثقافات)

 

“إدوارد سعيد” الذي خسرناه مرتين

يحيى القيسي *

 

لا يمكن اختصار رجل متعدد الإبداع، وعميق الفكر مثل إدوارد سعيد في كلمات مقتضبة، أو توصيفات مستعجلة يمكن أن تفيه حقه، ولعلّ تلك الجملة التي داهمتني وأسررت بها إلى أحد أصدقائه المقربين حين رحيله لا تزال ترن في أذني: “أشعر بأنّ العرب قد أصبحوا يتامى بعده”، فقد كان مفكرهم العالمي الذي تُحسب لكتبه ومقالاته وتصريحاته ألف حساب في الوسط الغربي، ولم يأت بعده من يملأ مكانه، ولم يكن هناك قبله من يشبهه من أبناء العرب الذين يتماهى أكثرهم مع الحضارة الغربية حدّ الاستلاب .

كان سعيد نصيراً لأبناء جلدته من العرب والمسلمين، رغم أنّه غربي النشأة والثقافة والحياة، وهو يُمثل حقاً الصورة الناصعة للمثقف المنحاز لقضايا أمته، والمدافع عنها بشراسة، بتحليل واع، وبصيرة متقدة، بعيداً عن الطائفية المقيتة، أو التطامن والخنوع للثقافة الغربية، كما كان فلسطينياً حتى النخاع، رغم محاولات الصهيونية العالمية التشكيك في أصله، ومحاولة تجريده من هويته الأصلية، بل لم يتم ترك فرصة من دون الهجوم عليه، والنيل من سمعته الأكاديمية، ولما لم تُجد مثل هذه المحاولات الوضيعة، تم توجيه تهديدات له في حياته، وإحراق مكتبه في جامعة كولومبيا .

ومنذ كتاباته الأولى عن “جوزيف كونراد وروايته قلب الظلام” ثم كتابه الشهير “الاستشراق” الذي أرسى لقواعد النظرية النقدية في مرحلة ما بعد الاستعمار، والذي كشف فيه سعيد عن الوجه القبيح للمستعمر الغربي وكيفية صناعة الصورة النمطية للشعوب العربية المغلوبة على أمرها، وترسيخ هذه الصورة في الخطاب الإعلامي والأدبي الغربي، عبر “التحيز المستمر والماكر من دول مركز أوروبا تجاه الشعوب العربية الإسلامية” كما قال، مروراً بكتبه الأخرى “مسألة فلسطين” و”تغطية الإسلام” و”القومية والاستعمار والأدب” و”متتاليات موسيقية” وغيرها، وصولاً إلى كتبه “خارج المكان” و”نهاية عملية السلام: أوسلو وما بعدها”، يمكن للمرء أن يلمح تلك الفرادة التي تنطوي عليها أفكاره، ورؤيته الجريئة .

كان سعيد مناضلاً بطريقته الخاصة، وقد وصفه روبرت فيسك بأنه أكثر صوت فعال في الدفاع عن القضية الفلسطينية، ورغم أن “حجره” الذي رماه باتجاه الجنود “الإسرائيليين” في جنوب لبنان، كان رمزياً إلا أن تأثيره الإعلامي كان مدوياً، تماماً مثل كتاباته ومقالاته التي انتصرت للحق والعدالة، وفضحه للإعلام الغربي المنحاز لكل ما هو ضد الإسلام، وترسيخه أيضاً للصورة النمطية، التي للأسف يقوم الإعلام العربي بنقلها كما هي “يمكن القول إن العالم الإسلامي أصبح يعلم عن ذاته ويتعرف إليها عبر صور وتواريخ ومعلومات مصنعة في الغرب”، ولا ندري ماذا كان سيقول سعيد اليوم عن أحداث 11 سبتمبر، والإسلام السياسي، وما يسمى بثورات الربيع العربي؟ وكيف سيفضح من دعمها وصنعها في الغرب أيضاً بكل جرأة لو امتدت به الحياة؟ فقد رحل في العام 2003 بعد صراعه الطويل مع “اللوكيميا” .

ما يمكن قوله في النهاية إن إدوارد سعيد لم يُنصف عربياً كما ينبغي لرجل في قامته الفكرية، وتأثيره الغربي، لا من حيث تعريف الأجيال الجديدة به، ولا ما يتعلق بالاحتفاء بتجربته ودعمه، وهنا يمكن الإشارة لجائزة العويس الإماراتية كنقطة مضيئة كرمت الرجل في العام 1997 حيث منح جائزتها عن حقل الإنجاز الثقافي والعلمي، ومن الطريف أن كتبه تم منعها لنحو 5 سنوات في مناطق السلطة الفلسطينية لمواقف سعيد السياسية من اتفاقية أوسلو، ولا يزال العديد من أبناء العرب لم يسمعوا باسمه، ولم يقرأوا شيئاً من كتبه، وهذا حال المبدعين والعلماء، بكل أسف، في بلادنا التي تجيد قتل أبنائها مرتين: في الحياة وبعد الممات .

__________

*عن الخليج الثقافي – 2014

روائي وإعلامي أردني/رئيس تحرير (ثقافات)

شاهد أيضاً

فرويد وصوفيا في جلسة خاصة

(ثقافات) فرويد وصوفيا في جلسة خاصة د. صحر أنور جلس سيجموند فرويد أمامها ينظر إلى …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *